نحو ثقافة حوار جديدة في زمن المخاضات الأليمة


معاذ حسن

يحدث أحيانًا كثيرة أن يفكر أحدنا برهافة، وهدوء، وعمق، لا سيما في اللحظات الحرجة من حياتنا اليومية الخاصة، أو الساخنة والصعبة في حياتنا العامة. لكن ما يحدث -أيضًا- أنه لا يستطيع أن يعكس ما يفكر به في الكثير من حواراته اليومية، بالمستوى نفسه من الرهافة والهدوء والعمق، وبخاصة مع من يستفزه دائمًا بشخصه وكلامه وطريقة تعامله؛ فيصير هو الطرف الأضعف وتتهاوى حججه القوية. فهل مرد ذلك إلى كونه لا يستطيع إيصالها بالشكل الصحيح، أم لأن الطرف الآخر ينجح في جذبه إلى أرضية حوار، يعرف ما يجهله هو عن مسالكها الوعرة، وزواريبها الضيقة، وعُصابها المقيت؟!

في حكمة تراثنا القديم، ثمة أقوال كثيرة وعديدة، قوية بدلالتها وجميلة ببيانها، لعل من أشهرها وأهمها ما يروى عن الإمام علي بن أبي طالب قوله:

“ما جادلت جاهلًا إلا غلبني، وما جادلت عالمًا إلا غلبته”.

وقول الإمام الشافعي:

يخاطبني السفيه بكل قبحٍ … فأكره أن أكون لـــه مجيبـا

يزيـــد ســـفاهةً فأزيـــد حلمــًـا …  كعودٍ زاده الإحراق طيبـا

لكن، هل يكفي ذلك لتبرير العجز عن مجادلة الجاهل أو السفيه، وهل مواصفات الجاهل والسفيه -في ذلك الوقت- هي نفسها مواصفات الجاهل والسفيه في مجتمعاتنا اليوم؟ أم أن المسألة نسبية وخاضعة للزمان والمكان بتغيرهما المستمر؟ نلاحظ هنا، من خلال القول البليغ المنسوب للإمام علي، والقول الشعري الجميل والرهيف للإمام الشافعي، أن ثمة منطقًا تباعديًا عنيدًا، بين جهتي ومستويي الحوار: العالم والرصين من جهة، والجاهل والسفيه من جهة أخرى، وهو منطق ربما كان يعكس، آنذاك، منطق حياة البداوة القبلي، الأحادي الضدي والشفاف في آن معًا، في عدم القدرة على استيعاب محمول الطرف الآخر وما يمثله.

ولعل وعينا العام -العربَ والمسلمين- ما زال، حتى اللحظة، محكومًا بموروث هذه الحكمة القديمة لدينا ومتأثرًا بها إلى درجة تعوق تكريس تقاليد ديمقراطية حديثة صحيحة للحوار، بين كافة الآراء والأفكار المتعارضة، بكل اتجاهاتها ومستوياتها المتعددة؛ لذلك تزدهر عندنا تُهمُ التخوين والعمالة أو التكفير والزندقة أو ما شابهها، بما يعني ذلك من قطع مع استمرارية الحوار المجتمعي المفترض، ثقافيًا وسياسيًا، على الرغم من حالة المخاض الطويل المؤلم الذي تعيشه بعض بلداننا العربية اليوم، والذي يستدعي ضرورة الحوار الدائم. ولعل من نافل القول أنّ نمط حياتنا الحديث صار تعدديًا، والحقائق المتواترة فيه نسبية ومتحولة باستمرار؛ فلم يعد ثمة وجود لحقائق مسبقة جاهزة وكلية، كما كان يتوهم الوعي العام السائد فيما مضى.

لذلك نعود -كتعويض- لنتداول تلك الحكم والأقوال القديمة التي هي في الأساس نتاج بنية مجتمعية سابقة وبعيدة، ما زالت حاضرة في بنيتنا الذهنية والنفسية، مع أنها تقادمت كثيرًا مع الزمن الحديث والمعاصر الذي نعيشه اليوم.

ولعل المرور اليومي على صفحات التواصل الاجتماعي، ولا سيما صفحات (فيسبوك) التي تعكس في العالم الافتراضي حقيقةَ صورتنا اليومية، في زمن الثورات الكاشف هذا، والاصطفافات الراهنة، المضطربة والمتداخلة التي تنتج عنه؛ يتيح لنا تعرف المزيد من الأمثلة على الحالة المتردية لثقافة الحوار، لحساب ثقافة تُهم التخوين والعمالة والتكفير والزندقة.. إلخ.

فعلى أي أساس يمكن محاورة أصحاب هذه التهم، من كل الأطراف، بكل ثقلهم النوعي في الوعي العام اليوم، وكيف؟

وهل تكفي حِكم الإمام علي والإمام الشافعي وغيرهما من الحكم العربية القديمة؟ أم أن المطلوب اليوم هو تفجير منطق الحوار القديم الذي يطلب من العاقل أو المحاور الهادئ، السكوتَ والتراجع أمام السفيه، وتوليد منطق جديد يقوم على المواجهة المعرفية الحقيقية، بكل ما تعنيه وتتطلبه من شجاعة أخلاقية وقوة تفكير وسعة صدر.

بينما كنت أقرأ كتابًا يحكي قصة بدايات القطع مع منطق وتفكير العصور الوسطى في أوروبا، وتبلور وعي جديد عند شعوبها، مع بدايات عصور النهضة والتنوير فيها، وما كان يولد ذلك من حوارات بل مواجهات أو سجالات حوارية ساخنة، كانت تودي أحيانًا بأصحابها إلى النفي أو المقصلة أو الحرق، بهرتني أولًا شجاعة أصحاب الأفكار الجديدة والجريئة وقوة شخصيتهم، حتى إنها طالت المقدس، ليس من قبل رجال فكر فحسب، بل حتى من قبل رهبان وقساوسة أيضًا، بكل ما له من رهبة وسلطة. وثانيًا تواضعهم وعدم تعاليهم عن محاورة أي شخص مهما كان فظًا، وأي فكرة مهما كانت سخيفة أو متخلفة أو حاقدة! ومن خلال ذلك كان يولد الفكر الجديد باستمرار.

لكن أكثر ما أعجبني هو دعوة بعض هؤلاء المجددين الهامّين وعميقي الفكر، إلى التحلي بـ “الخلق المرح” الذي يجعلنا نبتعد عن المغالاة في مواقفنا تجاه الآخرين أو التعالي عن محاورتهم، مهما كانوا بعيدين في تفكيرهم أو كان تفكيرهم ذا مستوى متواضع.

فما أحوجَنا اليوم نحن -المواطنين- مهما تباينت أو تقاطعت أو تباعدت أو تقاربت اصطفافاتنا، في أوطان تشهد مخاضات عنيفة دامية، بل كارثية،
إلى أن نعيد إنتاج ثقافة حوار جديدة بيننا، على أساس من الشجاعة الأخلاقية والمعرفية أولًا، وقوة التفكير المسنودة بثقافة غنية حول موضوع الحوار ثانيًا، ورحابة الروح والخلق المرح ثالثًا.




المصدر