تأصيل ثقافة الحياة، وانفتاح على المتغيِّرات
15 آب (أغسطس - أوت)، 2017
نجيب كيالي
هل أنتَ وحياتُكَ على وفاق؟
هل تشعر بذلك الشعور الجميل الذي يسمونه: السعادة؟
هل أدميتَ أصابعك ندمًا، لأنك لم تخترِ الزوجةَ المناسبة أو العمل المناسب؟
كيف تربي طفلك؟ وكيف تتعامل معه في سنوات المراهقة؟ كيف، وكيف؟
بعينِ خبيرٍ في التربية الاجتماعية، يفحص مؤلفُ الكتاب علاقتَنا بالحياة؛ هذه العلاقة التي لا نحتاج إلى ذكاء لنقول: إنها تعيسة، مأزومة، فيكفي أن تقف لحظة في شارع لترى الوجوه المتعَبة، والنظراتِ المنكسرة، والقلقَ العارم.
أعتقد أن المدرسة في بلادنا العربية لا تقوم بدور كبير في تعليم الناشئ كيف يتعامل مع حياته، ومع مَنْ حوله، وكيف يواجه المتغيِّرات، وعواصفَ العمر، ولعل كتاب (العياشي) يسدُّ شيئًا من النقص في هذا الجانب، ويضيف إلى اللوحة الكئيبة بعضَ الألوان الزاهية.
يحوي الكتاب بانوراما تربوية غنية، متنوعة، قريبة من القلب، ويمكن تقسيم تلك البانوراما إلى قضايا تهم الجيلَ الشاب الناشئ، وأخرى تهم جيلَ الآباء والمربين، وثمة نوع ثالث يهم الجيلين معًا.
قضايا الجيل الشاب:
قطعَ هذا الجيل مراحل طيِّبة في النمو العقلي والانفعالي، وباتت الطفولة خلف ظهره، وسنُّ الرشد بين يديه، لكنَّ سبلَ الحياة أمامه متشعبة، وهذه السبل يلفُّها المجهول الغامض. أمَّا زادُ التجارب فقليلٌ مضطرب، لذا نجد الكاتب يتجه إلى معالجة قضايا حيوية لدى هذا الجيل كمعانقة الطموح/ وقود النجاح، وضرورة السعي إلى التزام عقيدة أو مذهب فكري، والتخطيط للمستقبل، واختيار شريك العمر وفق أسس، سمَّاها: أسس السعادة الزوجية.
في مسألة التخطيط للمستقبل، يبرز صاحبُ الكتاب دورَ التخطيط في حياة الأفراد والمجتمعات، فيؤكد أنَّ “مَنْ لا يتخذ من التخطيط مسلكًا أو منهجًا له في الحياة يكون أشبه بسفينة تجوب البحار من دون أن تعرف لها وجهةً محددة، أو دون أن يكون لها بوصلة تهتدي بها إلى الوجهة التي تريد”. ثم يُعرِّفُ التخطيط بعد ذلك، فيذكر أنه: “جملة من العمليات أو الخطوات المتسلسلة بصورة منطقية والتي تقود، في نهاية الأمر، إلى بلوغ الغايات”. ويضيف: “من أساسيات التخطيط تجزئةُ الخطة البعيدة المدى إلى خطط مرحلية متوسطة أو قصيرة المدى”.
ويسعفنا بمثال لطالب في المرحلة الإعدادية، يتطلع إلى أن يصبح أستاذًا لمادة الأدب العربي كيف يضع خطة كُليَّة، وكيف يقسمها إلى مجموعة خطط بعضها يفضي إلى بعض. وهكذا، بوسع الناشئ أن ينتزعَ مستقبله من يد المصادفات، ويجعله رهنًا بمشيئته، وتربةً مناسبة رائعة لتحقيق أحلامه.
قضايا جيل الآباء والمربين:
على هذا الجيل يفرض الواقع مسؤولياتٍ جسيمة، ثقيلة، كبرى، ينوءُ بها الكتف، فمن رعاية الطفل الوليد والصبرِ على بكائه لدى الأمهات، إلى تأمين الغذاء اللازم للصغار وحمايتهم من البرد والمرض، ومخاطرِ الحياة المتربصة بهم في محطات أعمارهم المختلفة، وفوق هذا وذاك تبرز على قمة جبل المسؤوليات قضيةُ تربية الأبناء في طفولتهم، ثم في مراهقتهم حيث العناد، والجنوح، والتحدي.
تناول الكاتب عددًا من هذه الجوانب، وقد اخترتُ أن أتوقف عند معالجته لمسألة المراهقة(1) التي يطلق الآباء والأمهات من سعيرها صيحاتِ الاستغاثة.
يُنبِّهنا المؤلف إلى أنَّ كلمة: (مراهقة) مشتقة من الإرهاق الذي يصيب الفتى والفتاة في هذه السن الحرجة؛ حيث يندفع النمو بقوة في الغدد والعظام، وتتغير ملامح الوجه والصوت، ويطلق الدافعُ الجنسي صيحاتٍ عالية، عنيفة، مزلزلة.
في خضم هذه التحولات يرغب الفتى في حرية الخروج من المنزل، واختيارِ الأصدقاء، وإبداءِ الرأي، وترغب الفتاة في مجالسة النسوة، وتقليدهن في مسألة ارتداء الألبسة الجميلة والزينة، ويرغب كلا الطرفين في البحث عن شريك من الجنس الآخر.
من واجب الأبوين في هذه المرحلة العاتية محاولةُ اتخاذ المراهقين إخوةً وأصدقاء، وتجنُّبُ القسوة والانصياع المفرط، إضافةً إلى تقديم الدعم النفسي، في حال تعرُّض الأبناء إلى فشل دراسي أو ضغط طارئ أو صدمة نفسية.
والمهم -في نظر المؤلف- أن يوفِّر الأبوان جوًا أسريًّا يتسم بالتعاطف والتآلف، وأن يحترما حاجةَ أبنائهم للاستقلال التدريجي عن سلطتهم.
قضايا الجيلين معًا:
هنا نلاحظ أنَّ كتلة الكتاب الأكبر يستغرقُها هذا القسم، فهو أولًا كتاب للإنسان –بعامة- قبل أن يكون موجهًا إلى عمر محدد، ولنتأملْ مثلًا هذه المجموعة من عناوين الفصول:
ابتسمْ تبتسمْ لك الدنيا
عشر قواعد للسعادة
عش عصرك لا تتخلف عن الركب
خمسة اختيارات في الحياة
خمس لاءات في الحياة
لا تضع دراهمك في سلة واحدة
كيف تكون محبوبًا
لا تحزن
لا تقلق
لا تيأس
اخترتُ مما سبق جانبين لأشير إلى أهم ما ذكرهُ الكاتب فيهما:
عش عصرك لا تتخلف عن الركب: يطالب صاحبُ الكتاب الإنسانَ، في هذا الفصل، بالنمو المستمر مع المعرفة النامية التي لا تتوقف ليلَ نهار عن التطور، ويستنكر من بعض حملة الشهادات العليا كالماجستير والدكتوراه، اعتقادَهم الساذج بأنهم بلغوا الشأوَ الأكبر، والذروةَ الأعلى، ففي كل عام، سيول من البحوث والتجارب والاكتشافات في سائر المجالات. في مجال الطب -مثلًا- تتواصل التجارب المعملية، وتكشف المجلاتُ والمؤتمراتُ الطبية، عن طرق جديدة في التشخيص والعلاج، والأمر نفسه نجده في مجالات الهندسة، والاتصالات، والزراعة، وحتى في مجال الأعمال الإدارية والمحاسبية.
كيف تكون محبوبًا: هذه مسألة فائقة الأهمية، فالإنسان كائن جيَّاش العاطفة، وهو نَهِمٌ من الناحية النفسية إلى تبادل الحب مع الآخرين. ولأنَّ ما يجعل الإنسانَ محبوبًا، من الخصائص والسمات، لا يُولَدُ معه بالفطرة، إنما يُكتسَبُ اكتسابًا، يدعونا الكاتب إلى السعي وراء ذلك، والتحلي به، ومن خير ما نفعله في هذه المسألة: الابتعاد عن غلاظة القلب وفظاظة السلوك، وأن نحبَّ لسوانا ما أحببناه لأنفسنا، وأن نرعى شجيرةَ الحب بالتغاضي عن أخطاء الطرف الآخر وزلاته، فالخطأ في طينة الإنسان، وقَدَرٌ من أقداره، وقديمًا قال بشار بن برد:
إذا كنتَ في كلِّ الأمور معاتبًا
صديقك لم تلقَ الذي لا تعـــــاتبُهْ
فعشْ واحدًا أو صلْ أخاك، فإنه
مقارفُ ذنــــــــــــــــــــــــــبٍ مرةً ومجانبُهْ
جاء أسلوب الكتاب قريبًا من النفس دمثًا، يشعر القارئ معه بأن المؤلف يجلس على مقربة منه، يعطيه من مَعين قلبه وفكره، وعلى وجهه سيماءُ أخ، وابتسامةُ صديقٍ ودود.
ومع دماثة الأسلوب، أغنى الكاتب كتابَهُ بشواهد من خزانة الشعر العربي، والأمثال، وأقوال الحكماء والمفكرين، والقرآن الكريم، فبدا الكتابُ كأنه نصٌ في التربية، ونصٌ في الأدب، أو يكاد يكون كذلك.
في مسألة نبذ التعصب التي نحن بمسيس الحاجة إليها -في العالمين العربي والإسلامي- استشهد بقول الكاتب الفرنسي الكبير فولتير؛ قول يصلح أن يكون دستورًا، ومنهجًا، وخاتمة لهذا المقال: (إنني قد أختلف معك في الرأي، ولكنني مستعد لأن أدفعَ حياتي ثمنًا لحقك في التعبير عن رأيك) (1).
كتاب (حياتك كيف تحياها) 158 صفحة، صادر عن منشأة المعارف بالإسكندرية- مصر 2013.
(1) عالج الكاتب هذه المسألة في فصل خاص، عنوانه: (الأسلوب الأمثل للتعامل مع أبنائنا المراهقين) ص 133
(1) حياتك كيف تحياها ص 85
[sociallocker] [/sociallocker]