من أجل موقف وطني سوري من الاحتلال الإسرائيلي


حيّان جابر

لقد شكل غياب موقف المعارضة السورية الواضح والحاسم، من قضية الأراضي السورية المحتلة وطرق وآليات استعادتها، مرتكزًا لتسلق الكثير من الدعوات ذات الطابع الفردي غالبًا، التي تتمحور حول العمل على كسب ثقة الاحتلال، عبر إقامة علاقات سياسية طبيعية، تتبعها علاقات طبيعية بين المجتمع السوري ومجتمع الاحتلال، على اعتبار أن الثورة تتطلب أولًا تغييرًا شاملًا لخطاب النظام السوري الحالي من جميع القضايا المركزية، ومن ضمنها العلاقة مع الاحتلال، كما تتطلب ثانيًا دعمًا واعترافًا دوليًا، من أجل إسقاط نظام الأسد، وتقلدها لأمور الحكم لاحقًا، الأمر الذي لا بد أن يمر عبر موافقة الاحتلال. لذا ونتيجة لمخاوف قطاعات واسعة من المعارضة السورية المنظمة من خسارة الاعتراف الدولي بها، وما سيتبعه من تقويض المجتمع الدولي لفرص المعارضة في انتزاع السلطة من نظام الأسد -رغم ما أثبتته السنوات الثورية من خطأ التعويل على الخارج- نجد تجاهل المعارضة للحديث عن طبيعة العلاقة الرسمية السورية مع الاحتلال في مرحلة ما بعد الأسد، كما لم يتم البحث في الاستراتيجيات الوطنية الضرورية لاستعادة جميع الأراضي المحتلة؛ فاقتصر خطاب المعارضة الرسمية على تسليط الضوء على دور الاحتلال العلني أحيانًا والخفي غالبًا في الحفاظ على استمرار حكم الأسد، وذلك عبر ربط تقصير النظام الدولي في إيقاف آلة الإجرام الأسدية، بمخاوف الاحتلال وقيادته من مرحلة ما بعد الأسد، والتي تشير إلى غياب الإرادة الدولية الحقيقية في ذلك خدمة للاحتلال ومصالحه التي تعكس مصالح المجتمع الدولي تلقائيًا.

بالتدقيق في حالة اللاموقف السابقة، نلمس انعكاسها إعلاميًا وسياسيًا على شكل موقف مهادن ومسالم، بالحد الأدنى مع الاحتلال، ونلحظ انطلاقها من خطأين جوهريين، يتمثل الأول في الخطأ بقراءة علاقة النظام السوري الحالي مع الاحتلال، ليتم البناء أحيانًا على الأكذوبة التي يروج لها النظام السورية باعتباره نظامًا مقاومًا أو ممانعًا، والتي استثمرها النظام على مدار حكمه في تثبيت ركائز الحكم الأمني والاستبدادي. فقد اعتقل النظام جميع الأصوات السورية المناهضة والمعارضة منذ بدايات حكمه، على اعتبار أنها جزء من أدوات الإمبريالية في تطويع وإخضاع الدولة والمجتمع السوري، مع العلم أن النظام السوري كان -وما زال- يشكل إحدى أهم العوائق العربية أمام بناء حركة تحرر عربية شاملة أو فلسطينية عبر الكثير من ممارساته التي استهدفت ضرب أي محاولة، فلسطينية كانت أم سورية أو عربية للعمل المقاوم، باستثناء بعض الأطراف التي قبلت أن تكون أداة في يد النظام السوري كي يستخدمها وقت الحاجة للضغط عربيًا أو دوليًا. بينما ينطلق خطأ المعارضة الثاني من اعتبارها أن التشابك العضوي بين النظام السوري والاحتلال مبني فقط على الثقة المتبادلة على طول الجبهة الحدودية المشتركة. فعلى الرغم من صحة هذه المقولة إلا أنها تتناول جزئية صغيرة من العلاقة العضوية بين النظام السوري والاحتلال، وذلك نتيجة للقصور عن فهم أبعاد القضية الحقيقية وأبعاد العلاقة العضوية، بين الأسد والاحتلال؛ فالعلاقة القائمة اليوم تنطلق من نجاح النظام السوري في ضمان مصالح وغايات الاحتلال قصيرة وبعيدة المدى والتي لا تنحصر بأي شكل من الأشكال في حماية الاحتلال على خط التماس الرئيس في الجولان المحتل، بل تمتد إلى نجاح النظام في حجز المجتمع السوري وتكبيله بعلاقات اجتماعية ما قبل حداثية وقائمة على علاقات عشائرية وقبلية وإثنية وعرقية، مما انعكس على تدمير إمكانات بناء إنتاج صناعي وزراعي سوري متحضر ومتطور لصالح تعميم نمط إنتاج تابع مالي وسياحي وبنكي؛ لتصبح هذه البنية الاجتماعية والاقتصادية المتخلفة والتابعة عقبة رئيسة، أمام أي محاولة مجتمعية للولوج إلى عصر الحداثة والتطور الذي يفترض انتماؤنا إليه. لقد نجح النظام في حجز المجتمع وتفكيكه، وفقًا للانتماءات ما قبل الوطنية، عبر تدمير المنظومة العلمية والخدمية والاقتصادية المحلية. هذا التدمير الذي ترافق مع رفض النظام لأي محاولة فردية أو جماعية للحاق بركب الحضارة الثقافية والسياسية والصناعية، ليتم تأبيد التخلف والتبعية الاقتصادية، وهو بالضبط ما يهم الاحتلال ويمنحه الثقة والراحة المطلوبة.

وعليه نستطيع إدراك الأبعاد الكاملة لخطأ المعارضة، والمنطلق من سطحيتها في تفكيك منظومة النظام السوري الإعلامية والخطابية من جهة، وفي تحليل بنيوي لعلاقة النظام مع الاحتلال من جهة أخرى، فتارة يتم رد تراجع مقومات الدولة السورية إلى موقف النظام الممانع وفقًا لخطابه، وتارة يتم رد نجاح النظام في إحكام السيطرة على الدولة والمجتمع السوري لعوامل خارجية، قامت على رضوخه الكامل لمصالح الاحتلال؛ مما شكل السبب الرئيس في دعمه وحمايته دوليًا حتى اليوم. وكأننا أمام نظام مزدوج مقاوم أو ممانع حينًا ومهادن وعميل للاحتلال حينًا آخر، هذا التناقض الكامن بين ما يدعيه النظام وبين ممارسته، والذي لم تكلف المعارضة نفسها عناء تحليله وتفكيكه لتقوم بشرحه للشارع السوري أولًا، ومن ثم تحديد النهج البديل عنه ثانيًا، جعل موقف المعارضة العلني والسري يعبر عن ضرورة نيل السلطة البديلة لموافقة الاحتلال عنها بدلًا من الأسد، وهو ما يفرض على السلطة البديلة تمثيل مصالح الاحتلال دون مواربة، أي باتباع نهج متجانس إعلاميًا وعمليًا يعترف بالاحتلال ويخضع لشروطه كاملةً، عوضًا عن نهج أكثر تمثيلًا لمصالح السوريين، إذ إن النظام السوري قد استغل خطاب الممانعة أو المقاومة من أجل تكبيل المجتمع وتطويعه في خندقه فقط، هذا الخندق الذي يقدم كل الخدمات لقوى الاحتلال، وعلى رأسها ضرب أي محاولة لتشكيل حركة تحرر عربية، وضرب جميع القوى التي تنشد بناء وطن قوي وحضاري ومتماسك اجتماعيًا، الوطن الذي يمثل الخطر الحقيقي على الاحتلال ومصالحه، وهو بالضبط ما طالبت الحركة الثورية السورية به، وقد دقت هذه المطالب ناقوس الخطر في جحور الاحتلال، فهي تمثل مكمن الخطر والخوف الحقيقي الذي يجب على الاحتلال مجابهته وهزيمته، سواء عبر دعمه للنظام السوري في حربه على الشعب السوري الثائر سرًا أو علنًا، أو عبر حرف الثورة عن أهدافها ومسارها الوطني من أجل ديمومة حكم الاستبداد والتخلف وتفكيك المجتمع.

لا يمكن الجمع بين مصالح الاحتلال ومصالح الشعب السوري الوطنية؛ فهما على طرفي نقيض، وهو ما تحتاج المعارضة السورية إلى حسمه سريعًا؛ فإن كانت المعارضة تطمح إلى كسب شرعية ودعم الاحتلال وبالتالي المجتمع الدولي، فسوف تجبر على الصدام والتصدي للشارع السوري الطامح لتشييد دولة العدالة والحرية والتطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي، أما إن كان خيارها بكسب شرعيتها من الشارع السوري، فحينئذ عليها أن تعي أهمية تنظيم وتأطير الشارع، كي يكون سندها الحقيقي في مشروع بناء سورية المتطورة والمتحضرة والقوية التي نطمح والتي لا بدّ لها من الصدام مع قوى الاحتلال وهزيمتها أيضًا، وهو ما يستلزم بناء جبهة تحرر عمليًا وخطابيًا سوريًا وعربيًا، كنقيض حقيقي لتلاعب النظام السوري بهذه القضية إعلاميًا ومهادنته واستسلامه عمليًا للاحتلال.




المصدر