الصراع العربي الفارسي! ملاحظات تمهيدية


جبر الشوفي

لا أهدف من هذا الربط السريع بين عناصر، هي أشبه بالعناوين لمراحل تاريخية متباينة ومتباعدة زمنيًا، إلى تشكيل بناء تراكميّ معرفيّ ولا مادة بحثية تدخل في الدقائق والتفاصيل، وذلك لأنّ كل عنوان من عناوينها يشكل بمفرده مادة لبحث متكامل، بل لأوضب الأفكار والأحداث المعروفة في سبيل الوصول إلى نتائج، قد تفيد في فهم طبيعة الصراع الحالي بين سلطة ولاية الفقيه الإيرانية والعرب، في وقتنا الحاضر. بالنظر إلى طبيعة العلاقات العربية الفارسية التاريخية القلقة التي تحولت إلى صراع عميق، اتخذ أبعادًا سياسية وثقافية وعنصرية متعددة، منذ انتصار العرب المسلمين في معركة القادسية 638 م وسقوط دولة الساسانيين الفارسية التي أسسها كورث نحو 500 ق.م وعرفت باسم (شاهنشاهي) (إيران) أو دولة الفرس أو الدولة الكسروية نسبة لسلالة الأكاسرة الذين حكموها، وقد عرفت كأعظم وأكبر الدول التي سادت المنطقة، قبل العصر الإسلامي، وربما تفوقت على معاصرتها الإمبراطورية البيزنطية، في الشهرة والقوة.

وعلى عكس عرب ما قبل الإسلام الذين كانوا قبائل متناحرة، لم ترتق حضاريًا إلى مستوى تكوين شعب (أمة) تحتضنها دولة، ذات هوية جامعة، كان الفرس قد أنجزوا هويتهم الحضارية وتجذّروا في أمة، تجمعها إمبراطورية عريقة، تدين معظمها بالزرادشتية (المجوس)، مما أهّلهم تاريخيًا إلى أن يبسطوا سيطرتهم على القبائل العربية (المناذرة) حتى تمكّن العرب المسلمون من إسقاط إمبراطوريتهم، فشعر رجال السياسة والعلم والثقافة الفرس بالخسران، وراحوا يفتشون عن تحقيق وجودهم في الدولة الجديدة، بعد أن فاتهم الزمن الإمبراطوري إلى غير رجعة، بينما لم يكن هذا الشعور النكوصي، ليعني عامة الفرس الذين لم يخسروا شيئًا، سوى ما ذاقوه من الجوع والإذلال والهوان على يد النخبة الارستقراطية المتعالية على شعبها؛ فانخرطوا في الدين الجديد معولين على دعوات التسامح والتساوي بين الشعوب، وساهم في هذا الانخراط المتحمس بروز عدد من الوجوه المرموقة، كان أبرزهم الصحابي المعروف سلمان الفارسي، وما لبث كثير من نخبهم وكوادرهم، أن تحولوا إلى قوة رئيسية في الصراعات السياسية، وذهبوا بعيدًا في الصراعات العرقية مع العرب في ما سمي (بالشعوبية)!.

بدأت الشعوبية كحركة إصلاح تنادي بالمساواة والعدالة، بين العرب والأقوام التي دخلت الإسلام منذ العصر الأموي الذي عرف بتحيزه وتفضيله للعنصر العربي، في إدارة شؤون الدولة وقيادة جيوش الفتح، وتسنم المناصب العليا في الدولة. وترافق هذا مع تراجع الثقافة واللغة الفارسيتين وانزوائهما، أمام النمو السريع والتطور المطرد للغة القرآن وثقافة الدين الجديد وفقهه؛ فانعكست هذه المفارقة علاقة إشكالية بين الفريقين وقادت إلى صدامات، أخذت أبعادًا سياسية وثقافية واجتماعية متباينة، محمولة على مجمل الصراعات الجوهرية والفرعية المتعددة الوجوه والأشكال، وقد عبّرت هذه العلاقة المأزومة عن نفسها بازدواجية، تمثلت بالتمسك بالدين الإسلامي والاندماج به، والتخلّي عن العقائد الفارسية القديمة، عند الأكثرية الفارسية من جهة، والحنين النكوصي إلى عصر الإمبراطورية الفارسية، ذات العراقة والحضارة، التي نافست إمبراطوريات ذلك الزمن قرونًا طويلة من جهة ثانية. وفي المقابل من ذلك كانت النخب العربية، في أعلى مراحل انسجامها، فاللغة لغتها والدولة دولتها، وقد رفد القرآن لغتها وأعطاها مسحة من القداسة والأهمية الزائدة، فصارت لغة الدين والثقافة والعلوم، وبها وبالانتماء إلى القرآن والدولة، رأى العرب أنفسهم لأول مرة في تاريخهم، يتجهون إلى بناء دولة الأمة، بهوية تجمع بين العروبة عنصرًا والإسلام معتقدًا، بينما تهمشت اللغة الفارسية، وانزوت في حدود ما يترجم منها إلى العربية، ومضت الهوية الفارسية كاملة نحو الانهيار، ليتماهى أهلها في الدولة كأتباع من الدرجة الثانية، حتى ساد عند بعضهم وتعاظم الربط، بين هذا الانمحاق الحضاري وتبعيتهم للدين الإسلامي ودولته العربية التي استأثرت بالسلطتين السياسية والدينية، وخالفت مبادئ الإسلام في “لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى”، وازداد حنقهم وشعورهم بالإقصاء، وغضبهم من الأمويين واتجه قادتهم إلى التخطيط مع العباسيين لإطاحة دولتهم!

قد يعزز هذه السردية المظلومية الفارسية الشيعية، خروجُ الصحابي سلمان الفارسي غاضبًا من سقيفة بني ساعدة، لأنه كان وكثير من أتباعه وأنصاره من الفرس، ينتصرون لخلافة علي بن أبي طالب، كما يعززها مقتل الخليفة عمر بن الخطاب، على يد أبي لؤلؤة الفارسي، باعتباره إحدى الإشارت السياسية المهمة التي جرى طمسها وردها إلى جماعة أظهرت الإسلام (تقية) وأضمرت المجوسية، ثم ما كان من مذبحة هارون الرشيد للبرامكة، وهم مأدبو أولاده ومعلموهم، وكذلك قتل أبي  جعفر المنصور بالحيلة للقائد الأسطوري أبي مسلم الخراساني، بعد أن كان له الدور الأكبر في إسقاط الدولة الأموية، وقتل آخر خلفائها مروان بن محمد، ومن ثمّ توطيده الحكم للعباسيين. ويضاف إلى هذا ذلك الدور الحاسم الذي لعبه الفرس في الصراع الكبير، بين الأخوين الأمين والمأمون، بعد وفاة والدهما هارون الرشيد الذي ارتكب خطأ فادحًا بتقسيمه البلاد إلى ثلاث ولايات شبه مستقلة، بين أولاده الثلاث، وخصّ الأمين ابن السيدة زبيدة العربية بالخلافة، وأقصاها عن ابنه الأكبر المأمون، ليترك له ولاية خراسان بين أخواله الفرس، وخصّ المعتصم بولاية بلاد الديلم وهي امتداد لتواجد أخواله الترك، وقد فعل هذا التقسيم الغبي فعل المِعول في زعزعة وإضعاف وحدة الدولة، وجلب الكوارث عليها، إذ سرعان ما دبّ الخلاف على السيادة بين المأمون والي خراسان والخليفة الأمين، وانتهى بقتل الأمين بمناصرة الفرس، ثمّ تحوّل إلى النفوذ التركي بعد أن خلفه أخوه المعتصم.

كذلك عبرت حركات التمرد الفارسية عن هذا التوجه وبلغت ذروتها، في ثورة بابك الخرمي 201 للهجرة 816 م التي جمعت بين الطابع الطبقي والفارسي والديني، ونادت بتوزيع الأراضي على الفلاحين الفقراء وإلغاء الملكية الفردية للأراضي، وتحرير المرأة ومساواتها بالرجل، واستمرت اثنين وعشرين عامًا، لتنتهي على يد المعتصم عام 223 للهجرة 838 م، بعد أن هلك فيها كثير من الضحايا وكلفت خزينة الدولة أموالًا طائلة؛ فأمر المعتصم بتقطيع أعضاء قائدها بابك الخرمي عضوًا عضوًا ثمّ قتله على الملأ.

وحين قامت الدولة الصفوية في بلاد فارس 1501 م، واعتمدت المذهب الشيعي، جعلت منها نموذجًا إيرانيًا يضاف إلى رصيد الفرس التاريخي، وخاضت معاركها مع الأتراك تحت هذا العنوان، ثم استقرت دولتهم واتبعت سياسة متوازنة وسط المشكلات الدينية، وشجعت الآداب والفنون، وعمر عباس مدينة أصفهان وجعلها أهم مدن العالم في تلك الفترة، واستطاع أن ينظم التجارة فانتعش اقتصاد البلاد، ولم يكن خلفاء عباس الثاني، ليحافظوا على ما أنجزه، فتقهقرت البلاد بسرعة في عهد شاه حسين 1694- 1722م، وأثارت سياساته المتعصبة للمذهب الشيعي جيرانه الأفغان، فزحفوا إلى مملكته واستولوا على( تبريز) العاصمة، وأعدموا شاه حسين. ومن عام 1726م حتى عام 1736م قام كلزاي الأفغاني بإنشاء حكومة ظلّ صفوية، ثمّ انتقلت السلطة بعدها إلى الأسرة القاجرية، فالبهلوية حتى قيام الثورة الإيرانية عام 1979م فخضعت إلى ولاية الفقيه، عبر إحياء كثير من ممارسات إسماعيل الصفوي المعادية، واعتبارها كل من ليس شيعيًا ليس فارسيًا.

والآن وقد غدت الفارسية خطرًا إقليميًا، بجمعها بين مفهوم الدولة الجهادية الشيعية والطموحات الإمبراطورية الفارسية، يبقى السؤال عالقًا في اتجاهين، أولهما هل من علاقة بين دور إيران الحالي، وبين كل ما مرّ ذكره من أحداث وصراعات، أم أن كلّ ذلك لا علاقة له به، ولا بالطموحات المشروعة، إذا تخلت عن أسلوبها في العدوان تحت عنوان الثأر لآل البيت، أو لهزيمة القادسية التي أنهت أمجاد فارس، وثانيهما: هل يعود الفضل في إعادة بناء الدولة الفارسية الموحدة، إلى كونها ذات هوية قومية عريقة، أنجزت كيانها القومي الجامع في وقت مبكر من التاريخ، وقد أضافت إلى هويتها العصبية الدينية، بينما ظلّ العرب قبائل، على شكل دول متنافسة فاشلة!




المصدر