‘“علمانية” الاستبداد الأسدي’

17 آب (أغسطس - أوت)، 2017
9 minutes

بدر الدين عرودكي

من أسوأ ما ابتليت به الشعوب العربية، خلال نصف القرن الأخير تحت وطأة نظمها الاستبدادية، على اختلاف صورها، مدنية وعسكرية، تشويهُ مختلف مفاهيم وبنى الحياة الاجتماعية والسياسية التي يمكن أن تفتح مجرد كوة تتيح نقدها أو مناقشة مسؤوليها في ما يقترفونه من تخريب معمم وتجهيل مقصود. وخير من يقدم المثل الأهم ضمن هذا المجال، في العالم العربي، هو النظام الأسدي، طوال عهدَي الأب والابن. وكان ما يفاقم من سوء هذا البلاء أن عددًا من المثقفين أو الكتاب أو الشعراء الذين صنفوا أنفسهم أربابًا للحداثة أو رسلها، كانوا لا يصادقون على هذا التشويه فحسب، بل يشاركون فيه بحماس، معززين بمصادقتهم خطاب السلطة الاستبدادية وصلاحيته الفكرية والسياسية، ومُبَررين بمشاركتهم هذه الصلاحية.

وعلى زعم هذه النظم تبنيها للرؤية “الحداثية”، في تصميم مشروعها الاستبدادي، لم يسلم أي مفهوم يندرج ضمن مفاهيم هذه الرؤية في الحياة الاجتماعية أو السياسية المعاصرة في تطبيق مشروعها من مثل هذا التشويه، بدءًا من مفاهيم فصل السلطات، وحرية الصحافة، والديمقراطية، مرورًا بالانتخابات وطرق تنظيمها، ونظام الدولة، وطبيعته، ومصادره التشريعية، وليس انتهاء بتلك التي تمسُّ حياة المواطن، على مختلف الصعد في الحياة اليومية، الشخصية منها واالعامة، كالنقابات المهنية، أو البنى التمثيلية كمجلس الشعب أو البلديات، أو الأحزاب.. إلخ.

ولم يكن مفهوم العلمانية إلا واحدًا من هذه المفاهيم، برع النظام الأسدي في استخدامه وفي تسويقه كعلامة تميزه عن سواه من النظم العربية الأخرى أو، خلال السنوات الأخيرة، عن “معارضيه” من مختلف جماعات الإسلام السياسي، وخصوصًا في المحافل الغربية، الإعلامية منها والسياسية. لكنه إلى جانب ذلك، كان يكتفي -كما هو شأنه في طريقته “تجسيد” المفاهيم الأخرى- بالمظاهر البراقة التي تخفي، أو تحول دون رؤية حقيقة العفن الكامن وراءها، تاركًا للجميع التخبط في الذهاب إلى تفسيرات تصل إلى حدٍّ من التناقض فيما بينها أن يصير المفهوم على ألسنتهم، في نهاية الأمر، لغوًا لا طائل من ورائه. يكفي، على سبيل المثال، أن نستمع إلى الآراء التي تطرح في مختلف الندوات التي تنظم حول مثل هذه المفاهيم، وحول العلمانية منها بوجه خاص، حتى يتبين مثل هذا الاضطراب. فما الذي تعنيه العلمانية فعلًا؟ وأين تتواجد تطبيقاتها؟ ثم ما العلمانية التي كان -وما يزال- النظام الأسدي يعنيها حين يسوّقها؟ ما قوامها؟ وأين تتواجد النصوص القانونية الناظمة لها، وأين يمكن أن نرى آثارها في الحياة الاجتماعية والسياسية بسورية؟

لم يكن مفهوم العلمانية في الغرب مجرد حصيلة تفكير نظري، بل أحد نتائج ما آلت إليه، منذ بدايات العصر الصناعي، مختلف الصراعات الدينية والسياسية في الدول الأوربية التي بلغت ذروتها وحسمت، في فرنسا خصوصًا، مع الثورة الفرنسية لصالح حركة بدأت معها من أجل علمنة المجتمع الفرنسي، ثم تأثر بها، من بعد، عدد من المجتمعات الأوروبية الأخرى. فكان لا بد للمفهوم أن يبقى بالتالي موضع نقاشات وسجالات بين الكتاب والفلاسفة والسياسيين، حتى تمَّ رسخ مفهومًا في العلوم السياسية الغربية. لكن الكلمة التي تغطي هذا المفهوم لم تكن هي ذاتها في مختلف اللغات الأوروبية، بما فيها تلك التي تنحدر من اللاتينية. فاللغة الفرنسية لم تعتمد الكلمة اللاتينية (saecularismo) التي تقول المعنى المباشر لها، بل استمدت، حين بدأ استخدامها كلمة (laïcité) -في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على وجه التحديد- من الكلمة اليونانية القديمة (laikos) التي كانت تعني بها ما ينتمي إلى الشعب تمييزًا عما ينتمي إلى المؤسسات الدينية. وربما كان هذا الاختلاف في التسمية وراء بعض التباين في المعنى المراد من هذه الكلمة التي صارت مفهومًا، على الصعيدين الاجتماعي والسياسي ولاسيما في فرنسا. بما يعني، في حقيقة الأمر، أن هذا التباين -وإن لم يكن ينفي وجود قاعدة فكرية وحقوقية صلبة قام عليها مفهوم العلمانية على نحو دقيق- يؤدي في بعض الأحيان إلى تقليص ذلك المفهوم في عدد من الدول الغربية الأخرى، بحيث يقتصر على مجرد تحديد لطبيعة العلاقة بين الدين والكنائس: بعضها يعتمد الدنيوة (كما يمكن ترجمة الأصل اللاتيني) كألمانيا وبلجيكا والنمسا واللوكسميورغ، وبعضها يعتمد الفصل بين الطرفين كإسبانيا والبرتغال وإيرلندا والسويد،، وبعضها احتفظ بـ “دين الدولة” كبريطانيا، وذلك منذ القرن السادس عشر، وكذلك اليونان وفنلندا والدانمارك. لكن جميع الدول الأوروبية، مع ذلك، تخضع لمبادئ مشتركة عبرت عن اعتمادها في الاتفاقية الأوروبية للمحافظة على حقوق الإنسان والحريات الأساسية، المُوَقعة عام 1950، والتي تستعيد لحسابها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة بخصوص حرية التفكير والاعتقاد ومبدأ الحرية الدينية.

لذلك يبدو من الضروري، في أي نقاش أو بحث في مفهوم العلمانية وتطبيقاته، الانطلاق من التجربة الفرنسية التي تبدو، في واقع الأمر، بالمقارنة بينها وبين سواها من الدول الغربية، تجربة قصوى ومثلًا متكاملًا على صعُد تكوين المفهوم، وتطوره، وتجلياته المتوالية في الممارسة؛ فبوصفه استمرارًا منطقيًا لعصر التنوير في فرنسا، بدأ دخول مفهوم العلمنة التدريجي الفضاءَ القانوني العام رسميًا مع الدستور الفرنسي عام 1789، أي عام الثورة الفرنسية، الذي اعتمد فكرة الدولة العلمانية، أي الدولة المستقلة عن كل دين أو كنيسة، والحيادية إزاء مختلف الأديان والعبادات. ثم تبع ذلك إعلان حقوق الإنسان في السنة نفسها (26 آب/ أغسطس) والذي قاد بعد ثلاث سنوات إلى إقرار المجلس التشريعي الأحوال الشخصية والزواج المدنييْن؛ ثم، قيام بونابرت عام 1802 بإلغاء اعتبار الدين الكاثوليكي دين الدولة -وإن كان دين أكثرية الفرنسيين- وجعله كسائر الأديان معترفًا به وخاضعًا لرقابة الدولة.

كانت تلك -كما يقول المؤرخ والاجتماعي الفرنسي جان بوبيرو- أول عتبة في تطور علمنة الدولة الفرنسية، وستليها عتبة ثانية استمرت خلال القرن التاسع عشر نحو خمسين عامًا، وانحصرت في فضاء التعليم والمدرسة، وانطوت على صراع بين رقابة الدولة أو حياديتها، ثم انتهت بقانون 1882 الذي جعل التعليمَ إجباريًا وعلمانيًا، ثم قانون 1886 الذي علمن جهاز موظفي التعليم أو المعلمين أنفسهم. ثمَّ كانت العتبة الثالثة والأخيرة التي كرسها بعد فترة الاحتلال الألماني لفرنسا وحكومة فيشي التي ألغت مبدأ العلمانية، خلال فترة حكمها، دستورُ 1946 في مادته الأولى: “فرنسا جمهورية لا تتجزأ، علمانية، وديمقراطية، واجتماعية”؛ وهي المادة نفسها التي استعيدت بحذافيرها في دستور الجمهورية الخامسة عام 1958، وأضيف إليها مباشرة: “وهي تضمن المساواة أمام القانون لكل المواطنين، من دون تمييز في الأصل، أو العرق، أو الدين. وتحترم كل المعتقدات”.

يمكن على هذا النحو تلخيص العلمانية في ثلاثة مبادئ: حيادية الدولة إزاء الإديان؛ والحرية الدينية؛ والتعددية الدينية. أما قوام تطبيقها فهو نظام مدني شامل، أي أنه لا يقتصر على الفضاء العام، بل يمتد إلى الفضاء الخاص، أي الأحوال الشخصية والإرث والزواج، ولا يمكن أن يقوم إلا ضمن نظام سياسي يعتمد الديمقراطية نهجًا ويستند إلى الشعب بوصفه مصدر السلطات.

في ضوء كل ذلك نرى إلى أي مدى يسم الجهل خطابات الجماعات الإسلامية على اختلافها، وبلا استثناء حين تتنطع للحديث عن العلمانية. لكن خطاباتها تصل في موعدها، كي تساير وتلائم ما يبتغيه النظام الأسدي منها، هو الذي يريد أن يجعل من نفسه الخيار الأفضل أو البديل الأوحد عنها بوصفه “علمانيًا”.

ولكن، في ضوء كل ذلك كله أيضًا، وبإيجاز شديد، أليس البحث عن “علمانية” النظام الأسدي كالبحث الذي يقوم به رجل أعمى في غرفة مظلمة، عن قطة سوداء لا وجود لها؟

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]