مفتشون دوليون يكشفون كيف استمر نظام الأسد بقتل شعبه بالأسلحة الكيمياوية طوال سنوات والعالم يتفرج


رغداء زيدان

تجنب نظام السد ضربات جوية أمريكية بالوعد الذي قطعه عام 2013  بأن يتخلى عن أسلحته الكيماوية. ويعتقد كثير من الدبلوماسيين ومفتشي الأسلحة الآن أن هذا الوعد لم يكن إلا خدعة.

وبحسب وكالة "رويترز" التي نشرت تقريراً مطولاً اليوم حول الموضوع، يشتبه هؤلاء أن نظام الأسد ظهر بمظهر المتعاون مع المفتشين الدوليين بينما احتفظ سراً بقدرات لامتلاك أسلحة كيماوية جديدة وطورها.

ويقولون إن النظام أعاق المفتشين وقدم لهم معلومات ناقصة أو مضللة واتجه لاستخدام قنابل الكلور عندما تضاءل ما لديه من كيماويات أخرى.

وذكر التقرير أن عشرات الهجمات التي استخدم فيها نظام الأسد الكلور، بالإضافة إلى غاز السارين الذي استخدم  في الغوطة الشرقية عام 2013. ويقول المفتشون الدوليون إن تقارير وردت عن أكثر من 100  واقعة استخدمت فيها أسلحة كيماوية في العامين الأخيرين وحدهما.

ونقل التقرير عن "أنجيلا كين" التي كانت كبيرة ممثلي الأمم المتحدة في نزع الأسلحة حتى يونيو/ حزيران 2015 قولها: "التعاون كان على مضض في كثير من الجوانب وهذه طريقة مهذبة لوصفه. فهل كانوا يتعاونون ببشاشة؟ لا".

وأضافت: "ما اتضح فعلاً هو أنه لم يكن ثمة إجراء مضاد. أن المجتمع الدولي في الأساس كان بلا حول ولا قوة".

ترددت أصداء مشاعر الإحباط تلك في تصريحات "كارلا ديل بونتي" محققة جرائم الحرب بالأمم المتحدة التي أعلنت في السادس من أغسطس/ آب الجاري أنها ستترك منصبها في لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة الخاصة بسوريا.

وقالت "ديل بونتي": "لا أملك سلطة ما دام مجلس الأمن لا يفعل شيئاً. نحن لا حول لنا ولا قوة ولا إنصاف لسوريا".

تفاصيل مهمة

يذكر تقرير "رويترز" أن المحققين ومصادر دبلوماسية ذكروا تفاصيل لها أهميتها:

1 ـ ما قدمه النظام من بيانات عن أنواع الكيماويات التي امتلكتها وكمياتها لا يتطابق مع الأدلة التي كشف عنها المفتشون على الطبيعة. فعلى سبيل المثال لا ذكر للسارين ومع ذلك ثمة أدلة قوية على أن السارين استخدم في سوريا بل إنه استخدم في العام الجاري.

وعثر المفتشون على كيماويات أخرى لم يذكرها النظام ومن بينها آثار غاز الأعصاب (في.إكس) والريسين السام ومادة كيماوية يطلق عليها اسم "هكسامين" تستخدم في تثبيت السارين.

2 ـ أبلغ النظام المفتشين في 2014-2015 أنه استخدم 15 طناً من غاز الأعصاب و70 طناً من خردل الكبريت في إجراء أبحاث. بينما يعتقد المحققون أن تلك الكميات ليس لها "مصداقية علمية". وقال مصدران شاركا في عمليات التفتيش في سوريا إن الأبحاث لا تتطلب سوى جزء يسير من هذه الكميات.

3 ـ لا يُعرف مصير ما لا يقل عن 2000 قذيفة كيماوية قال النظام إنه تم تحويلها إلى أسلحة تقليدية واستخدمت أو تم تدميرها الأمر الذي يشير إلى أنها ربما لا تزال في أيدي جيش النظام.

4 ـ قال ثلاثة مصادر على اطلاع مباشر بالأمر إن مسؤولين عسكريين تابعين للنظام طلبوا من شهود على علم ببرنامج الأسلحة الكيماوية في دمشق تغيير أقوالهم أثناء المقابلات مع المفتشين.

وبحسب رئيس منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، وهي الجهة الدولية المنوط بها الإشراف على التخلص من الأسلحة الكيماوية السورية وتدميرها، فإن أسئلة لها خطورتها لا تزال بلا إجابة عن مدى اكتمال الإفصاحات السورية ودقتها.

ونقل التقرير عن الدبلوماسي التركي "أحمد أوزومجو" المدير العام للمنظمة الدولية: "من المؤكد أن هناك بعض الفجوات والأمور الغامضة والتناقضات." لكنه رفض انتقادات وجهتها "كين" وبعض الدبلوماسيين الآخرين لأسلوب قيادته للمنظمة.

ورد "أوزومجو" قائلاً: إنه ليس من واجبات وظيفته أن يضمن "الالتزام الكامل" بالمعاهدات الخاصة بالأسلحة الكيماوية وقال إن المنظمة مكلفة بتأكيد استخدام الأسلحة الكيماوية لا بتحديد المسؤول عن استخدامها.

هجوم السارين

وذكر التقرير أنه في 21 أغسطس/ آب عام 2013 سقط مئات القتلى في هجوم بغاز السارين في منطقة الغوطة على مشارف العاصمة السورية. ويتسبب هذا الغاز الذي لا لون له ولا رائحة في اختناق من يستنشقه ولو بكميات صغيرة خلال دقائق.

وحملت حكومات غربية النظام المسؤولية عن هذا الهجوم. وفي أعقابه تم التوصل إلى اتفاق بوساطة الولايات المتحدة وروسيا وافق بمقتضاه النظام على التخلص من برنامج الأسلحة الكيماوية.

وفي إطار ذلك الاتفاق انضمت سوريا إلى منظمة حظر الأسلحة الكيميائية التي تتخذ من لاهاي في هولنداً مقرا لها ووعدت بفتح حدودها للمفتشين والكشف عن برنامجها بالكامل بعد أن كانت تنفي من قبل أن لديها أسلحة كيماوية.

وأعلنت سوريا أن لديها 1300 طن من الأسلحة الكيماوية أو المخزونات الكيماوية الصناعية وهي تقريباً الكمية التي قدرها خبراء خارجيون. وفي عملية قادتها منظمة حظر الأسلحة الكيميائية وبلغت تكاليفها مئات الملايين من الدولارات تم شحن تلك الكميات إلى الخارج لتدميرها بمساعدة 30 دولة على رأسها الولايات المتحدة.

لكن كان ثمة مشكلتان رئيسيتان. أولاً: لم تسر عمليات التفتيش بيسر وسهولة. فبعد أيام من هجوم السارين في الغوطة تعرض مفتشو المنظمة المتجهون إلى المنطقة لنيران قناصة. ووصل المفتشون إلى الغوطة في نهاية المطاف وأمهلتهم السلطات ساعتين فقط لمقابلة الشهود وأخذ العينات. وأكد الفريق استخدام غاز السارين.

وفي مايو/ أيار 2014 تعرضت قافلة مشتركة من المنظمة ومن الأمم المتحدة لانفجار ونيران بنادق كلاشنيكوف أثناء محاولتها الوصول إلى موقع هجوم آخر استخدمت فيه أسلحة كيماوية في مدينة كفر زيتا في شمال البلاد. وفشلت تلك المهمة.

وفي رحلة العودة احتجز مسلحون مجهولون بعض أعضاء الفريق لمدة 90 دقيقة.

ولم يستطع التقرير تحديد عدد مرات عرقلة عمل المفتشين لكن أربعة دبلوماسيين ومفتشين من المشاركين في العملية قالوا إن تكتيكات النظام تضمنت رفض إصدار تأشيرات سفر وتقديم كميات كبيرة من الوثائق عدة مرات لتعطيل سير العملية وفرض قيود على تفتيش المواقع في الدقائق الأخيرة وإجبار شهود بعينهم على تغيير رواياتهم في المقابلات.

وذكرت هذه المصادر أن فريق منظمة حظر الأسلحة الكيميائية أجرى 18 زيارة لمواقع منذ 2013 لكنه الآن توقف فعلياً لأن النظام لم يقدم معلومات كافية أو دقيقة.

وكانت المشكلة الثانية هي تغيير تكتيكات قوات الأسد. وقال مفتشان إن الأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية ركزتا على التخلص من المخزون الذي اعترف النظام بامتلاكه بينما شرعت قوات الأسد في استخدام قنابل كلور جديدة بدائية الصنع. وأفادا بإسقاط ما يصل إلى 100 برميل متفجر بغاز الكلور من طائرات هليكوبتر منذ 2014.

وغاز الكلور أقل سمية من غاز الأعصاب ويتوفر على نطاق واسع لكن استخدامه كسلاح محظور بموجب اتفاقية الأسلحة الكيميائية التي وقعت عليها سوريا عند انضمامها لمنظمة الأسلحة الكيميائية وهي وكالة بين الحكومات تعمل مع الأمم المتحدة لتنفيذ الاتفاقية. وفي حال استنشاق غاز الكلور يتحول إلى حمض الهيدروكلوريك في الرئتين ويمكن أن يقتل عن طريق إغراق الضحية في سوائل الجسم.

وذكر مصدر شارك في دراسة الأسلحة الكيماوية السورية لصالح منظمة الأسلحة الكيميائية أن البدء في استخدام نوع جديد من الأسلحة الكيماوية جاء في وقت حرج للمنظمة. وكانت المنظمة حريصة على التخلص من مخزون سوريا المعلن وعازفة عن بدء تحقيق بشأن مزاعم انتهاكات جديدة مما قد يجعل تعاون النظام في مهب الريح.

وأشار المصدر إلى أن هدف التخلص من المخزون، الذي خشيت حكومات غربية أن يسقط في أيدي تنظيم "الدولة الإسلامية"، كانت له الأولوية على هجمات الكلور.

ونفى "أوزومجو" مدير عام منظمة حظر الأسلحة الكيميائية أي عزوف عن التحقيق في تقارير هجمات الكلور مشيرا إلى أنه شكل في 2014 بعثة تقصي حقائق للنظر فيها. لكن هذه البعثة لم تكن مكلفة بإلقاء اللوم وخلصت إلى أن استخدام الكلور كان ممنهجاً وواسع النطاق.

وقال "أوزومجو" إن منظمة الأسلحة الكيميائية مقيدة بمعاهدة تأسيسها وهي اتفاقية الأسلحة الكيمائية لعام 1997. وأضاف أن المنظمة غير ملزمة بالتصرف عندما ينتهك أحد أعضائها الاتفاقية.

وعبر عن أسفه لانهيار العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة في المجلس التنفيذي لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية والذي يملك سلطة فرض القيود على عضوية سوريا وإحالتها إلى مجلس الأمن الدولي لعدم تعاونها.

وقال "أوزومجو" إن مكتبه ما زال يسعى لإجابات من حكومة الأسد عن المواد الكيماوية غير المعلنة والقنابل التي تلقى من الجو ومركز الدراسات والبحوث العلمية الذي يشرف على أسلحة سوريا الكيماوية منذ السبعينيات.

جمود سياسي

في 2016 عندما خلص تحقيق للأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية إلى أن قوات نظام الأسد مسؤولة عن ثلاثة هجمات بغاز الكلور سعت الولايات المتحدة إلى فرض عقوبات على المسؤولين عبر المجلس التنفيذي لكنها سحبت فيما بعد المقترح الذي لم يكشف عن تفاصيله.

وأدانت وثيقة وضعت إسبانيا مسودتها الهجمات لكنها حذفت أي إشارة لعقوبات وأيدتها أغلبية تشمل ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا لكن روسيا والصين وإيران والسودان عارضوها.

وفرضت الولايات المتحدة منذ ذلك الحين عقوبات على مئات المسؤولين في نظام الأسد الذين تقول إنهم على صلة ببرنامج الأسلحة الكيماوية. وأمر الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" بضربة صاروخية لقاعدة الشعيرات لكن الانقسام في المجلس التنفيذي لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية وفي الأمم المتحدة حال دون اتخاذ تحرك جماعي ضد الهجمات المستمرة.

واتهمت حكومات غربية موسكو بمحاولة تقويض تحقيقات الأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية في سبيل حماية الأسد.

وقال "أوكا سيلستروم" وهو مفتش أسلحة سابق بالأمم المتحدة وكبير العلماء حالياً في بعثة الأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية إن من المهم مثول الجناة في الهجمات الكيماوية أمام العدالة لردع استخدام أسلحة الدمار الشامل في المستقبل. وأضاف أن فريقه سيقدم تقريره المقبل للأمم المتحدة بحلول منتصف أكتوبر/ تشرين الأول.

ويبقى سؤال مهم دون إجابة وهو ماذا حدث لألفي قنبلة قال نظام الأسد إنه حولها إلى أسلحة تقليدية وهي عملية مكلفة وتستغرق وقتاً طويلاً. وقال مصدر بمنظمة حظر الأسلحة الكيمائية والأمم المتحدة شارك في المفاوضات عامي 2015 و2016 "على حد علمي لم تقدم الحكومة السورية قط أي تفاصيل بشأن أين ومتى وكيف قامت بتغيير حمولة القنابل". وأضاف أن من الواضح أنه كان هناك "هيكل قيادة حقيقي ورفيع المستوى وراء هذا".

ويحقق الفريق أيضاً في مقتل قرابة 100 شخص في الرابع من أبريل/ نيسان نتيجة لهجوم بالغاز على بلدة خان شيخون بريف إدلب. وأكدت عينات من أشخاص تعرضوا للمواد الكيماوية وفحصتها منظمة الأسلحة الكيميائية استخدام السارين.

وقال "سيلستروم" إن وجود السارين بعد فترة طويلة من تفكيك النظام المفترض لبرنامجه من الأسلحة الكيماوية يطرح أسئلة صعبة. وأضاف "هل هناك مخبأ في مكان ما أو هل ثمة إنتاج في مكان ما وما هي الكمية المتوفرة؟".

مضيفاً أن أنباء إسقاط القنابل من الجو في خان شيخون قد تشير إلى أن قوات نظام الأسد تحتفظ ببعض الأسلحة الاستراتيجية أيضاً. وأضاف أن الهجوم يعني إما أن "أحدهم يمكنه إنتاج السارين اليوم أو أن السارين كان مخبأ".




المصدر