خنازير السياسة في مزرعة الحيوانات


أنجيل الشاعر

لماذا تعود رواية (مزرعة الحيوانات) “لجورج أرويل”، بعد نصف قرن ونيّف إلى دور النشر العربية، وتعاد طباعتها ونشرها وتوزيعها من جديد؟ هل لأنها تلامس شعور المواطن العربي المقهور والمهدور والمنبوذ، أم لأنها تفكك منظومة الفكر الاستبدادي والسلطة السياسية التي آلت بالإنسان العربي إلى هذه الحال؟ أم لأنها تطرح سؤالًا، لا يزال مفتوحًا عن الثورة/ الثورات، التي شهدها العالم العربي ومصايرها، ولا سيما ثورات الربيع العربي ومآلاتها الكارثية؟ أم لأنها تضع مفهوم الثورة نفسه تحت السؤال، خاصة أن ثورات العالم العربي لم تفض إلى تقدم؟ قال إلياس مرقص: “في الواقع الذهني، الروحي والفكري، فكرة الثورة قتلت فكرة التقدم، تريد أن تعيش بدونها بدلًا من أن تقوم على أساسها، تريد أن تنوب عنها. وفي النتيجة؛ إن ما يراد هو تحويل الأرض إلى سماء والدنيا إلى جنة، وهذه الإرادة تسمى (ثورة) هذه القفزة الشاقولية إلى السماء تحمل معها السقوط، حتمًا، هذا الموقع الذهني انتكاس كبير عما كنا عليه قبل ربع قرن، حيث جاءت الثورة امتدادًا للنهضة وتأسيسًا لنهضة أعمق وأشمل”.

فالمصاير التي انتهت إليها الثورات الاشتراكية والقومية، التي أعادت إنتاج الاستبداد والتسلط، تشير كلها إلى أنه “لم يتبق من قضية (اجتماعية– سياسية- إنسانية) سوى القضية الأقدم، قضية الحرية إزاء الاستبداد، التي تشكل، في حقيقة الأمر، وجود السياسة ذاته منذ بداية تاريخنا” (حنة أرندت، 2008). و”مهما تكن نتيجة مآزقنا الحاضرة -إن لم نختف جميعًا عن وجه الأرض- فإنّ من المحتمل جدًا أن الثورة بمعزل عن الحرب ستظل باقية معنا في المستقبل المنظور”. الحرية لا تولد في الحرب ولا تولد منها. إن كلمة (ثورة) لا تنطبق إلا على الثورات التي يكون هدفها الحرية”، حسب كوندروسيه.

يقول جاد الكريم الجباعي: “العنف هو القاسم المشترك بين الثورة والحرب؛ ولهذا فإن الثورات العنيفة والحروب تقع كلها خارج المجال السياسي، (المدني)، على الرغم من تأثيرها المسجَّل في التاريخ، فليس كل ما يسجله التاريخ السياسي سياسيًا، بحكم قابلية الانتكاس إلى الهمجية، المضادة لقابلية التحسن الذاتي، في الطبيعة البشرية، أو بحكم الرُّسابة الغريزية أو البدائية في الخافية البشرية، الفردية والجمعية”. ذلك، لأن الثورة العنيفة تقسم العالم قسمين: عالم الأخيار وعالم الأشرار، فقد كان شعار ثورة الحيوانات “كل ما يمشي على اثنتين عدو لها، وكل ما يمشي على أربع أو يطير هو صديقها”.

يعدّ جورج أورويل (1903– 1950) من أهم الكتاب البريطانيين في القرن العشرين. له العديد من الروايات مثل (صعاليك لندن وباريس) ورواية (الحنين إلى كاتالونيا)، التي كتبها عندما كان مراسلًا لـ (BBC)، أثناء الحرب الأهلية في إسبانيا بين الجمهوريين ونظام الدكتاتور فرانكو، ورائعة أعماله رواية (1984) التي فضح فيها زيف المساواة، في عهد ستالين والنظام الشيوعي، في الاتحاد السوفيتي السابق.

رواية (مزرعة الحيوانات) رواية إنسانية على الرغم من كثافتها الرمزية، وإسقاطاتها السياسية وإدراجها على ألسنة الحيوانات. وهي صالحة لكل زمان وأغلب الأمكنة، التي تُهدر فيها إنسانية الإنسان، مع العلم أن صاحب الرواية كتبها، قبيل قيام الثورة البلشفية في الاتحاد السوفيتي، وما آلت إليه تلك الثورة من استبداد وديكتاتورية، وكان الكاتب متعاطفًا مع الطبقة العاملة البروليتارية، لكن قدرته على استنطاق الحيوان ورفضه للظلم والقهر والاستبداد، تفوق عبقرية الحكايات الأسطورية التي كان الحيوان فيها شخصية رئيسية، كما تذكرنا بكتاب (كليلة ودمنة) لابن المقفع الذي قُتل على يد الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، من قبل أن تنشأ الأنظمة الديكتاتورية، فالاستبداد هو الاستبداد، في كل زمان ومكان.

تدور أحداث الرواية حول “ثورة” قامت بها حيوانات أليفة في مزرعة يديرها المستر “جونز”، الذي يكثف في شخصه وسلوكه كل ما في الإنسان من صلف وميل إلى التسلط والعدوان.

لم تقم الثورة فجأة؛ إنما عن سابق إصرار وتفكير وتخطيط بقيادة الخنزير “ماجور”، المسن والحكيم، وإثر حلمه عن فناء الجنس البشري عمّا قريب، لكنه لم يبح بحلمه هذا إلا بعد أن خطب في الحيوانات خطبة أثارت حماستهم وحفزتهم على “العمل المنظم” للثورة على الظلم والاستبداد والإفقار والتهميش.

نجحت ثورة الحيوانات، لكن سرعان ما بدأ التسابق على القيادة أو الرئاسة، وبعد موت ماجور قائد الثورة، تولى القيادة الخنزيران “نابليون وسونوبول”، وتقلصت أهداف الثورة تباعًا، ثم وفد إلى المزرعة خنزير ثالث يدعى “سكولر”، وانضم بدوره إلى القيادة؛ فأدخلت “القيادة” تحديثًا على تعاليم الراحل ماجور، حيث أصبحت منظومة فكرية أسموها “الحيوانية”، من ثم شبّت الخلافات بين القادة وبدأ كل واحد يدبر ويحيك مؤامرته لإزاحة الآخر، لم تنجح الخطط والمكائد من دون اللجوء إلى العنف وسفك الدماء، من داخل المزرعة وأبناء جلدة قاطنيها.

ضاعت الثورة بسبب الانتهازية والمصالح الشخصية، وهُزم نابليون بانقلاب (عسكري)، ثم تعاون مع قوات من البشر وعاد إليها، وساد الخراب في المزرعة، بسط سيطرته ونفوذه على الحيوانات بشكل استبدادي كبير، بعد أن أرسل الحصان “بُكسر” القوي والغبي إلى المسلخ، مدعيًا أمام الحيوانات أنه أرسله إلى المستشفى للعلاج، وعربة المسلخ هي عربة إسعاف، ثم أعلن موته بهدوء.

ما يريد الكاتب قوله أن الضعفاء سيبقون ضعفاء، ويحتمون بعباءة الأقوياء، فلا يجوز لهم العزوف عن ضعفهم أو العزم على تقرير مصيرهم، أما السلطة السياسية فلا تعزف أبدًا عن استغلال الإرادات الحرة، بأساليبها المشروعة وغير المشروعة، لتكثيف الطمع والفساد مستفيدةً من بساطة الشعب، إن لم نقل جهله السياسي الذي لا يتوانى الاستبداد عن تنميته.

بعد تداول هذه الرواية بين أيدي القراء والقارئات في المجتمع العربي مجددًا، بعد عقود طويلة من تأليفها، ستكون الإجابة سهلة وسلسة عن الأسئلة الآنفة الذكر، وعلى وجه الخصوص سنكون نحن -السوريات والسوريين- معنيات ومعنيين بالإجابة المناسبة، لأن ما وجده أورويل في مجتمع الحيوانات يشبه المجتمعات البشرية التي ما تزال قائمة على الاستغلال والقهر والتسلط والاستبداد، والتي لا تنفع معها سوى ثورة من أجل الحرية والمساواة والعدالة، لا لإحلال طبقة محل طبقة أو سلطة محل سلطة، أو حزب محل حزب.

فكرت كثيرًا، وأنا أتنقل في مزرعة المستر “جونز”، وكم أحسست بانتمائي إليها ونفوري من ثورتها البلشفية التي كُتبت هذه الرواية في انتقاد نظامها الشمولي وسلطتها الاستبدادية، وتقافزت أمامي خنازير السياسة المعاصرة، القطط التي كانت تموء في الظلام وأصبحت تحتل عرش ممالك الحرب، وعمل الأحصنة القوية واستمرارها في غبائها والخضوع لتجهيلها هنا وفي غير مكان، وتطبيل الخراف المدجنة منذ الصغر للتصفيق وترديد شعارات الطلائع والحزب القائد، والحمام الذي انقلبت رسالته من السلام إلى الإعلام الكاذب والمشين، والبوليس السرّي المعاصر أيضًا المتمثل في الكلاب وطبعها الوفي في حالة السلم، وما تفعله من شراسة في ظل حالة الطوارئ، وقوانين الإرهاب.

الفئران وحدها توالي الحكام المتعاقبين على المزرعة، وتختبئ حين تتمرد بقية الحيوانات، وللغراب موسى حكاية أخرى؛ فهو يتنبأ بما تريده الخنازير الحاكمة، وحامل الدعوات التبشيرية، لونه الأسود يشير إلى زي رجال الدين في بيوت العبادة، كما يعبّر عن تسييس الدين وطبعه بطابع السلطة الاستبدادية التي لا تتوانى عن بسط نفوذها على الحياة العامة والحيوات الخاصة.




المصدر