ربيع براغ


سلام الكواكبي

أزور العاصمة التشيكية حاليًا، والتي كانت تشيكوسلوفاكية قبل عدة سنوات، وألحظ في شوارعها استعدادات ملفتة، لإحياء الذكرى 49 لإجهاض ربيعها المُبشِّر من قِبل آلة الحرب السوفييتية، برئاسة ليونيد بريجينيف، والتي تابعت إجهاضاتها لفصولٍ ربيعية أخرى، في مناطق أخرى من العالم، مع تحولها إلى مجرد روسيا برئاسة شبيه بريجينيف في السعي إلى الهيمنة، فلاديمير بوتين.

بعد عشر سنوات تقريبًا من إجهاض ربيع بودابست الديمقراطي، باحتلالها في تشرين الثاني/ نوفمبر 1956، من قبل 75 ألفا من جيش الاتحاد السوفييتي وحلفائه؛ قام ليونيد بريجينيف بالإيعاز لغزو تشيكوسلوفاكيا، في 21 آب/ أغسطس 1968، معلنًا إجهاضًا عنيفًا آخرًا لربيعٍ ديمقراطي، انطلق في براغ، في كانون الثاني من العام نفسه، بوصول الرئيس ألكسندر دوبتشيك إلى سدة الحكم والأمانة العامة للحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي. دوبتشيك هذا ظن أن بمقدوره، معزّزًا بالدعم الشعبي، أن يُعطي “وجهًا إنسانيًا للاشتراكية”، وسمّى مشروعه السياسي الطموح، وقد حاز على دعم قوي من الطلاب والمثقفين. فبعد عشرين عامًا من وقوع البلاد في حضن الاتحاد السوفييتي، إثر الحرب العالمية الثانية، شعر التشيكوسلوفاكيون بأنهم أهلٌ للحرية ولممارسة الديمقراطية وللتعددية الحزبية وتحرير الإعلام، وتعزيز الإدارة اللامركزية لبلادهم.

بدأت احتجاجات الطلبة عبر تظاهرات متواضعة، منذ منتصف الستينات، ضد الرقابة والحد من الحرية في التعبير تحديدًا، وقد أطلق الرئيس الإصلاحي دوبتشيك حركة “تحررية”، وجدت صداها لدى مختلف فئات الشعب، وكان من أبرز مظاهر هذا التأييد، ما سُمي ببيان “الألفَي كلمة” الذي صدر في حزيران/ يونيو 1968، وقد وقّع عليه سبعون شخصية فكرية وفنية وسياسية، طالبوا فيه بتصفية النظام القديم وبناء ديمقراطية اجتماعية منفتحة.

وبالتأكيد، من ضمن المنظومة العقلية المسيطرة على عقلية المنظومة الاشتراكية التقليدية بزعامة الاتحاد السوفييتي، فقد أفزعت هذه التوجهات زعماء الكرملين، وخصوصًا عند التطرق إلى الحديث عن “وجه إنساني للاشتراكية”. وخشيت القيادة السوفييتية، عن حق، أن تعطي هذه التحركات أفكارًا تدميرية للدول الأخرى المنضوية في الحلف السياسي والعسكري الذي يسيطر عليه الاتحاد السوفييتي. ومنذ شهر تموز/ يوليو من هذه السنة، طالب بريجينيف بإعادة الأمور إلى نصابها وبالابتعاد عن الخطاب التحرري الطارئ على المشهد الحديدي للشيوعية، كما أراد لها أن تتطور من خلاله، وقد شدّد خصوصًا على ضرورة القضاء على أي شكل من أشكال التعددية السياسية التي أقرّها الرئيس دوبتشيك. كما أن تحرير الإعلام أقلقه بشدة لما في ذلك من عواقب وخيمة على الأداء الخشبي والحجري للإعلام المهيمن حينذاك. وفي ليلة 20 – 21 آب/ أغسطس، سيرسل بريجينيف قواتًا ضخمة من (حلف فرصوفيا)، بقيادة سوفيتية حتمًا، لسحق هذا النظام السياسي التحرري الجديد في المهد. وقد تم اعتقال الرئيس دوبتشيك ونقله إلى موسكو، ومن ثمّ تم تعيينه حارسًا لغابة في منطقة معزولة.

في الأيام الأولى للغزو، قرر السكان التصدي له بشكل سلمي، وتعددت التظاهرات الحاشدة وخصوصًا في مدينة براغ. وكان المتظاهرون، من الطلبة والمثقفين خصوصًا، يحاصرون الدبابات في الشوارع والساحات، وقد حصل الجنود على أوامر بسحق الاحتجاجات بما أوتي لهم من أدوات؛ وأدى ذلك إلى سقوط أكثر من مئة قتيل من المحتجين، إضافة إلى آلاف الجرحى خلال أيام قليلة. ومن جهتهم، تحرك العمال -وهم نظريًا دعامة المنظومة الشيوعية بمفهومها التقليدي- في خريف العام نفسه بوجه الغزو السوفييتي لبلادهم، وتعرضوا أيضًا إلى القمع الشديد الذي أدى في النهاية إلى توقف الاحتجاجات، في كانون الثاني/ يناير من سنة 1969.

لقد شكل ربيع براغ بارقة أمل بتجديد النظام الاشتراكي، من قبل المؤمنين الحقيقين به بعيدًا عن الرغبات السياسوية بالهيمنة والستالينية المتجددة التي وجدت في موت قائدها جوزيف ستالين سنة 1953 شيئًا من التراجع، خصوصًا مع الآمال التي عُقدت على تولي خروتشوف القيادة ورغبته المعلنة في الإصلاح.

وفي الواقع، بدءًا من حزيران/ يونيو من سنة 1968، سعى بريجينيف بداية إلى التفاوض مع القيادة التشيكوسلوفاكية الجديدة سعيًا لحصر الأضرار؛ ومن خلال هذا المسار، قبِل بالحد من صلاحيات بعض المحافظين في الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي المرتبطين بموسكو، وقد كانوا يعرقلون ترسيخ المفاهيم الاصلاحية الجديدة. ولكن هذه المفاوضات وصلت إلى حائط مسدود عشية الغزو، وقد أضيف إلى هذا الفشل في المفاوضات، اقتراف بعض الأخطاء الاستراتيجية من طرف دوبتشيك؛ ما سهّل من عملية الغزو. وقد تمحورت هذه الأخطاء خصوصًا في رفضه المشاركة في قمة (حلف فرصوفيا) التي عقدت في وقتها في بودابست، حيث كان يمكن له أن يستفيد من دعم بعض قيادات الحلف المتعاطفة معه.

“الإمبريالية” السوفييتية، نعم رغمًا عن أنف العاشقين لهذا الوحش الأسطوري الذي قضى على الشيوعية بمفهومها المبدئي، تمخّض عنها إمبريالية روسية، تستند إلى علاقات مصالح قومية ومافياوية، تستمر في القضاء على آمال شعوبٍ أخرى، قريبة وبعيدة، في التحرر والتخلص من نير الاستبداد وحكم الحزب الواحد.

اليوم، تُحيي براغ “الديمقراطية” ذكرى أليمة لعملية إجهاض ناجحة لمحاولة ديمقراطية سالفة، وتستمر موسكو في اتباع السياسة نفسها، بلبوسٍ مختلفةٍ، في ظل تضعضع النظام العالمي.




المصدر