إعادة هيكلة أحرار الشام: محاولة الموازنة بين الجهادية والوطنية


muhammed bitar

لم تستطع حركة “أحرار الشام الإسلامية” الرسو على شكل نهائي سياسياً وعقائدياً، بعد نحو ثلاثة أعوام من المخاضات المختلفة، شهدت تغييرات كثيرة في ظروف مختلفة. وبدأت تلك المخاضات مع عملية الاغتيال الجماعي الكبرى لأبرز قادة الصفين الأول والثاني في الحركة خلال عملية تفجير في سبتمبر/ أيلول 2014، والتي ذهب ضحيتها رئيس الهيئة السياسية في الحركة، حسان عبود، المعروف باسم أبو عبد الله الحموي، إضافة لأكثر من 40 عضواً في القيادة العامة ومجلس الشورى.

ومنذ ذلك الوقت، شهدت الحركة الكثير من المد والجزر لجهة الانشقاق عنها باتجاه “جبهة النصرة” (هيئة فتح الشام حالياً)، أو الانضمام إلى “أحرار الشام” من قِبل بعض الفصائل الصغيرة الهاربة من “بطش النصرة”، والتي لطالما شكلت حركة “الأحرار” مظلة لها إلى أن تحوّلت هي نفسها إلى ضحية لـ”هيئة تحرير الشام” (تحالف تقوده النصرة)، كما حصل خلال الشهر الماضي، حين أدت المواجهات بين الطرفين إلى تدهور في الحركة وانشقاق نسبة كبيرة منها باتجاه الهيئة التي باتت لها الكلمة الطولى في محافظة إدلب. بينما انكفأت الحركة تلملم جراحها، وتحاول ترتيب أوراقها، وتبحث لنفسها عن هوية تمكّنها من الحفاظ على ما تبقى من أنصار لديها، بعد أن هزت التطورات الأخيرة ثقة الشارع بها بسبب سرعة تفككها وانهزامها أمام “تحرير الشام”.

غير أن التغييرات الأخيرة التي أعلنتها الحركة على صعيد قيادات الصف الأول، لا تشي بنقلة نوعية في مسيرة الحركة المرتبكة، بل تشير إلى أن التفكير السائد فيها لا يزال هو محاولة الموازنة بين خطين وفكرين متناقضين، هما الفكر الجهادي السلفي، والفكر الثوري الوطني، وهذه مراهنة سبق للحركة أن خسرتها في تجارب سابقة. فقد تسبّب غياب الحسم وضبابية المنهج في كل مرة، بمزيد من التصدع في جسم الحركة، خلافاً للافتراض الذي ظل سائداً بأن انشقاق المتشددين سوف يريح الحركة ويترك لقادتها حرية اتخاذ القرار باتجاه مزيد من البراغماتية على الصعيدين السياسي والعقائدي، ذلك أنه مقابل كل فئة متشددة تنشق، تظهر فئة جديدة، بينما أصحاب منهج الانفتاح والمرونة، يتآكلون، إما بالانزواء كما فعل مسؤول العلاقات الخارجية في الحركة لبيب نحاس، أو بإظهار مزيد من التشدد على أمل الحد من عملية انزلاق الكوادر باتجاه التنظيمات المتشددة خصوصاً “هيئة تحرير الشام”.

وجاءت التغييرات الأخيرة في صفوف الحركة متناغمة مع هذا النهج، بدءاً من اختيار الشيخ حسن صوفان لقيادة الحركة خلفاً لقائدها السابق علي العمر. وصوفان (مواليد اللاذقية 1977)، محسوب على الرعيل الأول من القادة السلفيين في الحركة، وقد خرج من سجن صيدنايا العام الماضي فقط في عملية تبادل بين الحركة والنظام بعد 12 عاماً أمضاها في السجن. وكان في السجن مقرباً من مؤسس الحركة، حسان عبود، وهو صهر رئيس المكتب السياسي الأسبق فيها، محب الدين الشامي، اللذين قتلا بتفجير مقر قيادة الحركة عام 2014.

ومنذ وصوله إلى الشمال السوري، تسلّم صوفان مجلس شورى الحركة وبقي في الصفوف الخلفية، إلى أن تم اختياره لقيادة الحركة أخيراً بعد أقل من أسبوع على انتهاء الاقتتال مع “هيئة تحرير الشام” في ريفي إدلب وحلب، وما تسبّب فيه من خسارة الحركة للعديد من المناطق الرئيسية ومصادر القوة التي كانت تتمتع بها في شمال إدلب، لا سيما باب الهوى، وانحسر وجودها في مناطق عدة، أبرزها جبل شحشبو وسهل الغاب.
ووصف البعض صوفان بأنه شخص توافقي ومقبول لدى القسم الذي انشق عن الحركة وانضم إلى الهيئة (جيش الأحرار)، ما يطرح إمكانية مساعدته في رص صفوف الحركة وتعزيز قوتها، في حين رأى آخرون أن اختياره يمثل انحيازاً للفكر المتشدد في الحركة. وجاءت التغييرات في الصف الأول التي شهدتها الحركة بعد تولي صوفان، منسجمة مع التوجّه الذي يحاول إمساك العصى من المنتصف وإرضاء جميع التيارات والأطراف.

ورأى مراقبون أن التعيينات الجديدة كانت لها كما يبدو أهداف محددة، إذ جاء تعيين أبو علي الساحل أمين سر القائد العام، بسبب قربه من “هيئة تحرير الشام” التي قوّضت وجود الحركة في الآونة الأخيرة، وذلك بهدف محاولة اتقاء شرها، وإتاحة إمكانية التواصل معها عند الحاجة.
أما كنان النحاس فهو شقيق رئيس الجناح السياسي السابق لبيب النحاس، وهما مقربان من الولايات المتحدة ودوائر صنع القرار، وجاء تعيينه مكان أخيه في مسعى لتحسين علاقات الحركة الخارجية. في حين يهدف تعيين أبو عدنان زبداني كقائد عسكري للحركة، إلى المساعدة في عودة كتلة “جيش الأحرار”، التي شكّلها أبو صالح طحان الذي انشق عن الحركة مع 16 فصيلاً في يناير/ كانون الثاني 2016 والتحق بعدها بـ”هيئة تحرير الشام”. كما حاول صوفان كسب ودّ علاء فحام الذي أشيع مرات عدة أنه حاول الانشقاق عن الحركة، والالتحاق بـ”تحرير الشام”، وهو ذو نفوذ واسع في منطقة أريحا، شمال غربي مدينة إدلب. وقبِل صوفان استقالة مهند المصري (أبو يحيى الحموي)، الذي كان يشغل منصب رئيس الجناح السياسي، وجابر علي الشيخ، الذي كان يشغل منصب النائب الأول للحركة، وأنس نجيب الذي شغل مهمة النائب الثاني للقائد العام للحركة.

ورأى عضو المكتب السياسي في الحركة، لؤي عبد الملك، المعروف باسم أبو يزن، في تصريح لـ”العربي الجديد”، أن هدف هذه التغييرات هو “إعطاء فرصة لشخصيات جديدة وضخ دماء جديدة، لعلها تستطيع أن تصلح حالة الشلل التي أصابت الحركة العام الماضي”. وحول الهوية الفكرية الراهنة للحركة، قال أبو يزن: “بالنسبة للهوية الفكرية فقد حُسمت من زمن ووجّهت الحركة بوصلتها باتجاه الشعب لتكون حركة شعبية وطنية وليست جهادية عابرة للحدود”. وأضاف أن “التغييرات الأخيرة في الصف الأول لا تعني تغييراً في هوية الحركة الفكرية، وإنما تصحيحاً لمسارها عبر وضع قيادة جديدة للحركة تعطي فرصة للتغيير وإعادة الحركة لدورها في حماية السوريين من كل أشكال الظلم”.

وأكد أن “الحركة منذ تأسيسها لم تبتعد عن مطالب الثورة، وكان ارتباطها بالسلفية الجهادية ارتباطاً فكرياً جرت عليه مراجعات من القادة الشهداء والأحياء”، مشدداً على أن “توصيف الحركة لم يكن على أنها حركة جهادية، وإنما نحن حركة شعبية إسلامية، لا تتبنّى الجهاد القتالي كوسيلة وحيدة للتغيير، بل تسير بمسارات متوازية، منها مسار عسكري وآخر سياسي ومدني ودعوي”. وأشار إلى أن التبدّل في خطاب الحركة من خلال مناداتها بالمشروع الوطني ليس جديداً وإنما هذا التحوّل بدأ منذ عام 2014 قبل مقتل قيادات الحركة الرئيسيين، إذ تجسّد التغيير حينها من خلال التوقيع على ميثاق الشرف الثوري الذي توافقت عليه معظم مكوّنات الثورة، وكان من أبرز بنود الميثاق أن “محددات وضوابط العمل الثوري مستمدة من الشرع الحنيف وأهمية الحفاظ على وحدة التراب السوري وأن مشروع الفصائل هو مشروع ثوري وطني وليس مشروعاً عابراً للحدود”.

وكانت حركة “أحرار الشام” قد حاولت قبل الضربة الأخيرة التي تلقتها على يد “هيئة تحرير الشام”، تسريع عملية التحوّل الداخلي فيها من خلال رفع علم الثورة السورية على معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا، وقررت الحركة اعتماد علم الثورة راية موحدةً لها، إضافة إلى اعتمادها القانون العربي الموحّد للقضاء في كل المحاكم التابعة لها في سورية.
ورأى مراقبون أن الانهيارات غير المتوقعة في صفوف الحركة عقب المواجهات المحدودة مع “هيئة تحرير الشام” من خلال انشقاق الألوية والكتائب المهمة في الحركة في الأيام الثلاثة الأولى من الهجوم على معاقلها، والتحاقها بـ”هيئة تحرير الشام”، مردها إلى وجود أزمة قيادة في الحركة التي لم تستطع التعافي من آثار الضربة القوية التي تلقتها عام 2014 إثر اغتيال قادتها. ثم جاء انتقال قائد “أحرار الشام” هاشم الشيخ إلى قيادة “جبهة تحرير الشام” مع كل ما يملكه من أسرار الحركة، ما شكّل اختراقاً قوياً لها، فضلاً عن تواصل الصراع بين تياري “الحمائم”، وهو تيار الغالبية في الحركة والأقرب إلى فصائل الجيش السوري الحر، و”الصقور”، الأقل نسبة لكن الأقوى تأثيراً في صنع القرار والذي يميل إلى التشدد في نهجه الفكري. يُضاف إلى ذلك، تراجع علاقة “أحرار الشام” مع تركيا التي شكلت في فترة من الفترات ظهيراً قوياً للحركة محلياً وفي الساحة الدولية.




المصدر