الجحش والباص الأخضر


جهاد عبيد

من هو الجحش الذي رتّب حروف الأبجدية على هذا النحو؟!

مدويًا انفجر سؤاله كاللغم داخل الباص الأخضر، فأجفل معظم الذين سرقهم نُعاس التعب والارهاق والهم، لحظات وأدركنا مصدر الانفجار؛ إذ أطلق الرجل بعد صمت قصير قهقهة شديدة القهر أنهاها متهادية قائلًا: جحش جحش والله جحش.

بضع ابتسامات صريحة، وبعض التمتمات المكبوتة المستغربة الممزوجة بالتثاؤبات.

عيناي معلقتان على الرجل صاحب السؤال اللغم، وعيناه تمسحان العبارة المخطوطة باللون الأحمر على الكتلة الإسمنتية التي قسّمت طريق المرور إلى محاور، ينقّل نظراته فوق حروفها بسرعة، حتى تظن أنه محاها برمشيه الخافقين كجناحي عصفور، فلم يبق منها إلا نصفها باهتًا (.. أو نحرق البلد).

جاري في المقعد المحاذي، المستيقظ توًا إثر الانفجار، مطّ عنقه نحوي موجّها سؤاله لي بهدوء الشاكي، وبصوت استعاره من ديك هرم مبحوح: “ليش نحنا ملاقين ناكل؟  أ عمي!؟”. ثم تابع نومه.

بينما كنت أحاول الربط بين السؤال اللغم والسؤال الشاكي، كانت الحافلة قد خرجت من حيّ القصاع. بدأتُ البحث عن علاقة ما، بين ترتيب الحروف الأبجدية على ذاك النحو، وبين الجحش، والجوع أو الطعام أو الفقر، الحاجة، العوز.

قبل وصول الحافلة حاجز شارع بغداد بقليل، بدأ الرجل اللغم ينوس يمينًا ويسارًا، وأخذت حركته تزداد شدة وسرعة، كلما اقتربنا من الحاجز أكثر، ثم فجأة مع توقفها تمامًا، أطلق عنين صاخب أجشّ أشبه بصوت ناعورة عتيقة حركتها مياه نهر عاد للحياة بعد دهر من الموت، ثم ضرب نفسه براحة كفّه القوية على رقبته، وصاح: “من هو الجحش الذي يملك الحقيقة؟! كل الأجوبة القطعية خاطئة، جحش ابن جحش”.

جاء استنفار وارتباك ركاب الحافلة هذه المرة مختلفًا، كان أثره مضاعفًا، في جوهره إحساس بالرعب، فُرّغ ظاهريًا على شكل ضحكات لا مبالية، واستهجانات غبية، وأنصاف كلمات، وعبارات مبتورة بلا معنى، عبّر عنها بوضوح جاري، الرجل الشاكي؛ حيث انتفض من غفوته كالملدوغ، وقذف في وجهي عدة كلمات مبعثرة، وأحرف مبللة مشوهة: “غير منّا الواحد من الله شو بدو الستر؟ أ عمي؟!”، ناظرًا لي باستجداء، وكأنه يتوسّلني أن أنظم كلماته المترامية في جملة مفيدة.

إيماءة من رأس المقاتل، عادت الحافلة تدبّ ببطء، على عكس أنفاسنا اللاهثة المتسارعة لكسب أكبر جرعة هواء بعد فترة الاختناق تلك.

سلوك الرجل اللغم، حركاته الغريبة، لوثته وكلماته المجنونة، وربما بنيته القوية، تركت مسافة كبيرة بينه وركاب الباص، حالت دون احتكاك أحد به، انتقادًا أو تذمرًا أو اعتراضًا، فاكتفى البعض بنظرة خاطفة حيادية تمامًا نحوه.

اتقد فضولي حد المغامرة، هممت بالنهوض من مقعدي قاصدًا الرجل الذي عاد إلى نوسانه البطيء، وحشرجاته الغريبة، وحركاته الموتورة، عندها شعرت بوزن ثقيل يجرني للخلف.

“بلالك اياها لك عمي، ليش ملاقين ناكل نحنا!؟”. يد الرجل الشاكي التي أمسكت طرف ثوبي لم تكن أقوى من نظراته الراجية المتوسلة، وصوته الناصح الجبان المستكين.

تابعت متجاهلًا رجاءه، عندما جلست بمحاذاة اللغم كان ينظر من النافذة وكأنه ينتظر لُقية. بدأت حركاته تتسارع وجسده يضطرب، وراحت حنجرته العريضة تخور وكأنه يستعد للزئير، أتت الذروة عند توقفنا على حاجز شارع بغداد الثاني، حيث ضرب رقبته براحة كفه القوية، مزمجرًا صارخًا بصوته الجهوري: “من هو الجحش الذي دسّ السمّ بالعسل؟! جحش جحش جحش”.

الجحش الأولى ثم الثانية، لتأتي الجحش الثالثة مع الخطوة الصاعدة الأخيرة للمقاتل الذي أصبح داخل الباص الأخضر: “شو ما تقول يا حبيب؟!” وتقدم باتجاهنا.

تلك اللحظات القصيرة حتى وصوله إلينا، كانت كفيلة برسم الكثير من سيناريوهات أفلام الرعب.

ساد صمت قاتل.

على مهل وبثقة، دسّ الرجل اللغم يده في الجيب الداخلية لردائه الشتوي الطويل، ما فتح أذهان الركاب على احتمالات وعواقب أكثر بشاعة، لكنه آخِرًا أخرج بطاقته الشخصية ورفعها: “قلت الفخّار لا يكّسر بعضه بعضًا إلا إذا جاء واحد جحش وكسّره، جحش نعم جحش، وهازه هويتي”.

ضحكات الركاب المبالغ فيها كانت في حقيقتها نحيب.

آثر المقاتل أخذ كلام الرجل على محمل الجنون، ربما كان ليحمل عبئًا ثقيلًا لو أختلف خياره: “بالله معك حق، طلاع يا غالي”.

أُغلق الباب على المذعورين، تابع الباص الأخضر مسيره.

حاول السائق أن يطرح سؤاله بود عبر مرآته المتوسطة العريضة: “وين رايح عمي، مطول لتنزل؟”. بصوت كالرعد جاء رد الرجل اللغم سريعًا غريبًا على غير المتوقع: “رايح عا سوريا، مطول لتوصل؟!”.

انتفض الرجل الشاكي مذعورًا، وأخذ يموء كالقطة، وكأن حروفه خرجت من مؤخرته لا من فمه: “شو هالمهزلة هي يه! ليش نحنا ملاقين ناكل عمي؟!!، يستر على عرضك! شو هالمهزلة هي يه؟!”.

قهقه الرجل اللغم طويلًا ثم أخذ يصرخ: “مهزلة نعم مهزلة، التاريخ يبدأ بمهزلة، وينتهي بمأساة”.

“كارل ماركس”. همست بصوت خفيض، خلت أنه كذلك، لكنه سمعني، فانفجر اللغم في وجهي هذه المرة: “كااااارل ماااااركس، أحسنت”. نهض وتوسّط الحافلة، استدار، نظر في عيني مباشرة، ووجه سبابته نحوي كالنبل: “أين بدأت المهزلة؟”. لم أستطع النطق، توجه نحو راكب آخر: “أين بدأت المهزلة؟”. صمت، “طيب، كيف بدأت المهزلة؟”. صمت، “طيب، المأساة؟ أين المأساة؟”. لم يحصل على أي إجابة.

هدر الرجل اللغم، انتفخت أوداجه، احمرّ جلد وجهه، وضرب بكلتا كفيه القويتين على صدره هذه المرة:

“المهزلة أن يتغير دستور بلد عمره خمسة آلف عام في خمس دقائق، والمأساة هي نحن، نعم نعم نحن الحطب، بدأ التاريخ وسينتهي في هذا الباص الأخضر”.

قفز الرجل الشاكي من مقعده كالأرنب، وأخذ يسبح نحو الباب، وهو يصيح: “من هو الجحش الذي سيبقى جالسًا معك في هذا الباص؟! جحش جحش سيكون جحش”.




المصدر