ضغوطات التسوية و”تدوير” المعارضة


عبد الرحمن مطر

تشكل جهود التسوية السياسية عبئًا كبيرًا على المعارضة السورية، بخاصة في ظل استجابتها لجميع المبادرات التي أطلقت يمينًا وشمالًا، بدءًا بتبني مبادرة كوفي عنان ونقاطها الست، التي تُعرف اليوم بجنيف 1، إيمانًا منها بالسعي إلى إنجاز تسوية تحقق غايات الانتفاضة السورية في الحرية والعدالة، وبالطبع رحيل نظام الأسدية، وإعادة بناء الدولة الوطنية. وقادها ذلك إلى الانخراط في مشروعات عديدة، إقليمية ودولية، وصلت اليوم إلى حافة شديدة، بفعل تحول فكرة الشراكة في إيجاد الحل، إلى ممارسة ممنهجة للضغوط التي يفترض أن تقود -كما يريد منتجوها- إلى تجاوب كامل يتيح إنتاج حلول توافقية تتعارض في الأصل مع هدف الثورة، وغاية تفجرها، ونعني بذلك الإبقاء على الأسد، والتعامل معه راهنًا ومستقبلًا.

لا نريد أن نُحمّل المعارضة السورية أعباءَ التحولات الدولية والإقليمية -وهذا بالقطع لا يعفيها من المسؤولية- ذلك أن حجم الضغوطات الكبير الذي تخضع له ناجمٌ عن عوامل ذاتية وموضوعية تتعلق بالمعارضة نفسها: الضعف والتشتت والهشاشة. ومن شأن أي ثورة في العالم يجري لها ما جرى للسوريين، وتواجه معارضاتها عمليات احتواء، ومصادرة للقرار، وإعادة تدوير، وإغراءات، وإقصاءات، أن يحدث لها هذا الضعف الكبير، إلى حدّ التهميش، حتى من قبل القوى الداعمة لها، عند اتخاذ أي قرار أو القيام بمشاورات حول الوضع في سورية.

وقد لعبت جميع القوى الداعمة في الثورة السورية أدوارًا مختلفة ومتفاوتة، من حيث آليات المساندة في تحقيق مشروعات المعارضة، وسياساتها -إن جاز التعبير- ولكن ذلك في محصلة السنوات الست، لم يؤد إلى نتائج إيجابية ملموسة، فقد حدث تراجع كبير في المواقف، وتعمقت الانقسامات في مجتمع الثورة، وانعكست الخلافات بين الدول سلبًا عليها. ومن الطبيعي، أن تصير مؤسسات المعارضة إلى هذه الحال من الضياع وعدم الجدوى، وتبدو المسؤولية مشتركة في الضلال والتضليل، والفساد والإفساد.

وقد شكلت الاستجابة للتجاذبات الإقليمية والدولية مقتلًا حقيقيًا لقوى الثورة، أنجزت ما قد يعجز النظام عن تحقيقه. ومع ذلك تستمر الثورة، على الرغم من الإخفاقات الكبرى، وهي في قراءة عامة، ما أُريد لها أن تصل إليه. لقد انجرفت المعارضة إلى ما لا يجب أن تنشغل به، أمام التحديات الحقيقية التي بدأت بالعسكرة، وبالاستحواذ على منظومات “المجتمع المدني” التي بدأت بالنهوض للتوّ.

كان نظام الأسدية -كما هو معروف- قد أجرى دراسات حول احتمال اندلاع انتفاضة في سورية، مع موجة الربيع العربي، أفادت بأن ذلك قادم. وكانت تصريحات الأسد تشيع الاطمئنان وعدم الاكتراث، فـ “سورية ليست كتونس وليبيا ومصر”. الواقع أن مبعث ذلك كان يستند إلى استراتيجيات الاحتواء والمواجهة، والتي -بلا شك- تلحظها أي دراسة أُنجزت، في ذلك الحين (2011)، لصالح النظام السوري. واليوم نستطيع أن ننظر من زاوية مختلفة إلى الأحداث التي مرت، وأن ندرك طبيعة تلك السياسات التي أنتجت ما يحدث في سورية اليوم. فقد كانت المواجهة الأمنية، هي جوهرها. والذهاب إلى أقصى ممكن في استخدام أساليب القمع، واحتواء التطورات، أيًّا تكن النتائج. وهذا ما تقوم به أجهزة النظام الأسدي عبر شراكة كاملة مع روسيا وإيران.

لقد ساعد ذلك على جعل جميع مسارات العمل السياسي، فارغة من مضمونها، أقرب إلى ألعوبة تتسلى بها القوى الإقليمية والدولية، ولا تكترث بالحرائق السورية، طالما هي بعيدة عن أعشاشها. ووجدت المعارضة السورية نفسها وحيدة، معزولة وعاجزة. وكان التحدي الأساس الذي يواجه أي مسعى تفاوضي، هو ذلك الخط الأحمر الذي وضعته استراتيجية مواجهة الثورة السورية: بقاء الأسد، أي بمعنى أكثر تفصيلًا استمرار الأسدية في سورية.

لا يأتي العالم بجديد، حين يُطالب المعارضة السورية بالامتثال لمتطلبات التسوية، في ظل معطيات جديدة (لا تطورات جديدة، لكنه سعيّ تضليلي متواصل) وبأن تقبل باستمرار الأسد في المرحلة الانتقالية. هذا الأمر –الطلب- لم يغب يومًا، عن أي طاولة حوار أو تفاوض، أو مناقشة، أو منصّة. كان البند الحيّ الحاضر، البند المعضلة.

فضلًا عن بنود جنيف واحد، بما تضمنته من إحالات غامضة بشأن مصير الأسد، فقد حدث خلط مقصود لجهة الفصل بين النظام ورئيسه، وتم تسويق أفكار تتعلق بإعادة بناء المؤسسات الأمنية، في إشارة إلى استمرار النظام كشريك أساس في أي عملية سياسية معنية بالمرحلة الانتقالية.

تبدو المعارضة السورية، ربما لأنها محكومة بالتدخلات المختلفة، لا ذاكرة حيّة تُحفزها دائمًا لقراءة الوقائع، والسياسات والمواقف وإحالاتها. على الرغم من الموافقة على جنيف واحد، فإن أحدًا لم يفصل في الخلاف الجذري الذي حملته حيال مصير الأسد. ومن ثمّ جاء مؤتمر فيينا، في تشرين الأول/ أكتوبر 2015، ليضع الأسس العامة لعملية التسوية السياسية في سورية، وأطره العامة هي ما يتم الأخذ بها، وروسيا نجحت -بموجب التوافق غير المعلن مع إدارة أوباما لإدارة الملف السوري– في جعل نفسها وصية على التسوية والحلّ.

لقد كان واضحًا اتفاق جميع أطراف فيينا على “تسوية لا تستثني أحدًا”. وكان الخلاف الذي برز حينئذ، حول مدّة بقاء الأسد في المرحلة الانتقالية، ومدى الدور الذي يمكن أن يلعبه فيها، وصلاحياته. وكانت الظروف الدولية تسير في هذا السياق، إلى أن استغلت موسكو قضية الحرب على الإرهاب، لتعيد الأمور إلى مشروعها الأساسي: حكومة انتقالية بأطراف ثلاثة، بوجود الأسد، ثم انتخابات عامة.

اليوم، هذه قضية ساخنة تنشغل بها المعارضة السورية وتختلف عليها، وتواجه جميع أطرافها ضغوطات مختلفة، من أجل إقرار رؤية سياسية، تقبل باستمرار دور للأسد في المرحلة الانتقالية. ولهذا الغرض يجتهد دي ميستورا في دفع المعارضات السورية للتفكير والمناقشة والاجتماع، ثمة فوضى تتخلق الآن للخروج بما يتوافق، وإنجاز حلّ تلفيقي ممكن في سورية، أقل ما يمكن القول فيه إنه يتجاوز أمنيات السوريين وأحلامهم، وتضحياتهم، من أجل إسقاط الديكتاتورية.

من هنا؛ أجد أن التداعي اليوم، لعقد مؤتمر جديد للهيئة العليا للمفاوضات، لن يأتي بما هو مفيد لصالح السوريين. لنستعد عملية الانتقال من المجلس الوطني إلى الائتلاف، وما حمله من ضعف وتشويش للمعارضة السورية. واليوم ثمة إرباك آخر سيحل بالمعارضة، طالما أن الواضح هو “إعادة تدوير” عبر التوسعة، وضم المنصات.. وغير ذلك. وإن كان لا بدّ من الإبقاء على مؤسسات المعارضة، فإن المطلوب أولًا هو تقويم الأداء العام، ومن ثمّ المساءلة، والعمل على خلق مجموعة عمل قيادية، تمتلك المعرفة والخبرة، قادرة على الدفاع عن حقوق السوريين، وقادرة على التعامل مع التقلبات الدولية والإقليمية، من منظور المصلحة السورية أولًا، من منظور الثورة الوطنية، دون أن تكون مضطرة إلى التنازل عن تضحيات السوريين.

التسوية السياسية صعبة جدًا؛ لأن هناك إرادة بفرض مشيئة موسكو، وصعبة لأن المجتمع الدولي معني بمحاربة الإرهاب، ويرى في الأسد شريكًا. وصعبة ثالثًا لأن المعارضة بلا سند، وهذا أكثر ما أضعفها، وجعلها في مواجهة الريح عزلاء. والعملية السلمية صعبة لأن حرب النظام على السوريين لا يُراد لها أن تتوقف، حتى لو قبلت المعارضة ببقاء القاتل المجرم في المرحلة الانتقالية.

لا شيء في الحقيقة يدعو للثقة بالجهود السياسية القائمة، ولا مخرج! وحده.. نفض الغبار عن كل ذلك، يجعل الرؤية واضحة.




المصدر