أُذنُ الجرَّة


إبراهيم صموئيل

في قصَّة قصيرة لصديقي الكاتب الساخر خطيب بدلة بعنوان “دلاّل عقارات” ما يكفي ويفي لتقديم عيّنة عن قدرة الكلام في إسعاف المحتال على الدوام؛ سواء في السياسة أو الثقافة، أو في حقول أخرى.

تحكي القصَّة عن دلال عقارات (وهو سمسار خبيث بامتياز) يعرض على زبون طابقًا مرتفعًا من عمارة، فيقوم باستعراض كلَّ ملكات الكلام لديه ليُقنع الزبون باستئجاره، مُتفّهًا ومُشوّهًا الطوابق الأرضيَّة مذ وجدت. ولشدَّة براعة الدلاّل في أفانين عرضه، يخال الزبون -ومعه القارئ ربّما!- أن الحياة لا تستحق أنْ تُعاش إنْ لم يكن المرء خلالها من سكَّان الطوابق العليا.

وما إن يزل لسان الزبون ويسأل -عَرَضًا- عن حال الطابق الأرضي، حتى يمسك الدلاّل بيده ويطير به هابطًا إلى المدخل، ثم ينطلق لسانه بالبديع الساحر من الكلام عن محاسن، وأمان، وخفَّة دم كلّ ما بُني على الأرض، مقسمًا بأن كلَّ درجةٍ إلى الشقق التي تعلو الطابق الأرضيّ لا تعدو أن تكون منشارًا لقلب ساكنها، وشفَّاطة لهواء رئتيه؛ مما يُدخِل في قناعة الزبون أن الإنسان خُلِق ليكون أرضيًّا فقط.

وذات يوم، قرأت في مقال لشاعر لبنانيّ ذائع الصيت انتقادًا شديدًا لما قدَّمه زياد الرحباني من كلمات وألحان هابطة، لتُغنّيها الفنانة فيروز. وقد ساق كاتب المقال أسبابه العديدة التي جعلته يحكم على ضعف تجربة زياد، وخلوّها من جديد ذي قيمة، إذا ما وضِعتْ إزاء الإرث الغنائي الضخم والرفيع الذي أنجزه كبار الشعراء والملحنين.

وفي مقال آخر -نُشر بعد سنة أو أكثر- نقرأ للشاعر نفسه مقالًا يستهلَّه باعتذار صريح عمَّا سبق وكتبه عن منجز زياد رحباني، وعن دوافع كتابته حينها، ثم يشرع بتقديم الأسباب والعوامل الفنيَّة والتعبيريَّة الإبداعية الكبيرة، والمتميّزة، التي ترفع منجزه إلى مصاف منجز من سبقوه من شعراء وملحني وواضعي كلمات السيدة فيروز.

ولو تأمّلنا في كلّ مقال على حدة، لوجدنا من الكلام والسياقات، والحجج، والأمثلة، والبلاغة في التعبير، والبيان، ما يُصيب القارئَ بـ “الحَوَلِ” حقًا، لا إزاء الرأي والموقف والمصداقيَّة، بل إزاء “القدرة” الثقافيَّة على انتقاء المعلومات واستحضار أحكام القيمة، وتوظيفها في كلا المقالين، “بمهارة” تجعل القارئ يصادق على صواب ووجاهة ما جاء في المقال الأول، تمامًا كمصادقته على صواب ووجاهة ما ورد في الثاني، سواء بسواء.

حال حاملي المباخر للطغيان الحاكم في سورية حال سمسار العقارات هذا في الرياء والنفاق والتدليس والتجميل والمخادعة. لا حاجة للحوار معهم، ولا ضرورة، ولا نفع منه. فهم أعرف ممّن يحاورهم بما يحاورهم عنه: استبداد السلطة وفسادها وتشكّلها من طغاة ولصوص وأفَّاقين ومارقين نهبوا البلد وثرواته، ودمَّروه.

هم أعرف لأنّهم من “عظام رقبة” السلطة، من جينات أزلامها، من خافي ومكشوف ألاعيب السنوات الخمسين من الاستبداد الماضية. لا أحد يتفوّق عليهم معرفةً. ولا أحد يبُزّهم حجَّة ودليلًا. هم حواة الذرائع لكلّ حال. هل يحتاج عبد الحليم خدّام -على سبيل العيّنة- إلى التعريف ببنية الطغيان وسلطته وجرائمه، وهو أحد كبار حواته؟!

وحالهم حال السمسار -أيضًا- حين ينقلبون. لا أحد يضارعهم في الكشف عن عورات الطغيان وسوءاته وفضائح أزلام سلطته وصفقاتهم لبيع البلد، ولا أحد يضاهيهم براعة في استحضار الأمثلة والشواهد والأدلَّة على اتجار سلطة الطغيان بالناس، وإفقارهم، وترويعهم، وكمّ أفواههم، واعتقالهم، وأفانين “تطفيشهم” من البلاد.. لأنّهم كانوا شهودها وأزلامها وجزءًا من صنَّاعها والضالعين في طبخات سُمومها.

فأيُّ بيع للماء في حارة السقَّائين؟!




المصدر