التناغم السوري


رغدة حسن

ثمة مغناطيس يجذب أمشاج الأرواح، أيًا كانت المسافة، وللمدن أرواح، تجذبك إليها بسحر، دون أن تعرف السبب.

في حركة الكون المثيرة وغير القابلة للتفسير، طرق تأخذ الأرواح إلى أشباهها، ليحدث التناغم الكوني المدهش الذي حاول كثر تحليله على مر الأزمنة.

في الموروث القديم، فسر الإغريق حالة الاختلال التي تصيب قلب التناغم، لآلهة الثأر Karma Nimesis كارما نيمسس الذي يشقي من أساء إلى التناغم الكوني.

لذلك؛ فإن من يعتقدون بالموروث القديم على يقين بأنه ما دام أثر الاختلال الحاصل لم يوازَن، فإن الذي أساء سيشقى ويعاقب.

أما عند الهنود القدماء، فإن النظام الكوني يسمى ريتا Rita، وأن التناغم الفائق للخيال، هو الذي يحافظ على النظام الكوني.

الفلاسفة فقط بين العلماء أدركوا سوية التناغم، وأن لكل كائن حالة من التناغم غير الواعي في السمفونية الكونية.

تتمثل المشكلة البشرية في أن أساسَ تناقضاتنا الداخلية مفارقةٌ كبرى ينطوي عليها التجلِّي الكوني، فهل في وسعنا أن نكون أحرارًا من غير أن نغرق في حالة فوضوية؟ وأن نعيش بفرادة، دون أن نتصارع ونقتتل؟

وتكمن الإجابة في طريقة فهمنا للتناغم الكوني وأساسه.

قد تكون الإجابة عن سؤال سوريا الكبير، حسب الموروث القديم عند الإغريق، أن على السوري العودة إلى داخله، ليحقق التوازن في معادلة التناغم، لتنتهي رحلة الشقاء. وحسب قدماء الهنود، على السوري أن يتمسك بالجمال، ليعود لتأدية دوره في سيمفونية التناغم الكلي.

ومن وجهة نظر التاريخ، فإن المدن التي زرعها السوري، على طول طريق استكشافاته، في حوض المتوسط، أو في الجهة الأخرى من العالم، تقدم لنا أمثلة حية واضحة، عن مهرجانات الجمال والمعرفة التي ابتدعها السوري، ونشرها في فضاء البشرية.

سنجد في أمكنة مسكونة بالجمال المعرفي آثارًا ما زالت حية تخاطب روح الوجود، كيف كان السوري يترك -أينما حل في زياراته- بصمة غاية في الأهمية، حافظت عليها الشعوب التي جاءت بعده، واعتبرتها أيقونة على البشرية توارثها.

إن القيم الإنسانية: الحرية، العدالة، المحبة، السلام، من أصل الطبيعة البشرية، ولا تعتمد في وجودها على البيئة الخارجية. لكن الفهم الخاطئ -في الطريقة- لإيجاد هذه القيم خارج ذواتنا، وباستخدام نفوذ العلاقات البشرية، للاستئثار والمزيد من الملكية، هو أساس الشقاء.

السوري الذي قدم للإنسانية أهم وسائل التواصل، اللغة والسفن والموسيقا…. وراح يجوب العالم لسببين: أولهما الاكتشاف والبحث عن إجابات، وثانيهما التجارة. وهنا، حين يعود بنا التاريخ لمشاهدة الصورة التي كان يقدمها السوري في مبادلاته التجارية، لا نرى إلا منظومة من الأخلاق غاية في الرفعة والنبل؛ إذ كان السوري يضع تجارته على شاطئ المدينة المقصودة، ويعود إلى سفنه الراسية بعيدًا، وينتظر إلى أن ينتهي التجار من مبادلاتهم، دون أن يتدخل، مكتفيًا بالمراقبة عن بعد، يحمل ما نتج عن تجارته، ويغادر إلى وجهة أخرى من العالم.

هناك مقولات كثيرة ومتداولة إلى الآن عن سوريا، تحمل في مضمونها دلالات مضيئة، وما زالت مقولة الإسكندر المقدوني حية إلى الآن، تختصر حالة سوريا، وما كانت تقدمه للعالم، حين قال إن ماء هذا النبع يذكره بحليب أمه مذ كان رضيعًا، وأن سورية هي وطنه الثاني.

لتأتي بعدها مقولة عالم الآثار وقارئ الرموز المسمارية الأوغاريتية شارل فيرلو التي نسبت بالخطأ إلى أندريه بارو: “لكل إنسان وطنان، وطنه الأصلي وسوريا”.

أوليس على هذه السوريا أن تعود، لتحقق التوازن والتناغم الكوني المنشود؟




المصدر