حلب والجامعة العبريّة والجولان وسورية وفدوى سليمان
22 آب (أغسطس - أوت)، 2017
آرام أبو صالح
لقد هزّني خبر مفارقة فدوى سليمان للحياة في المنفى، كما اهتز بدني على أخبار احتلال حلب وسقوطها، بل بيعها، عام 2016، وإنجاز التغيير الديموغرافي القسري فيها. أذكر أنني قد بكيت ساعات الصباح الطويلة، في ذلك اليوم المشؤوم من كانون الأول/ ديسمبر، وقد كانت الترتيبات جاهزة لزيارة اثنين من “المعارضة السورية” (منهم عصام زيتون)، إلى الجامعة العبرية في القدس في اليوم التالي، كنت أنتظر تلك الزيارة منذ الإعلان عنها في الجامعة، في معهد “ترومان” الإسرائيلي منذ أشهر، وكنت قد خططت كيف سأتعامل مع مجيئهم، وكان الهدف هو التعبير عن رفص الزيارة من الداخل، وعدم السكوت عليها. وفعلًا، هذا ما كان، فقد دخلنا -أنا وبعض الصديقات الفلسطينيات- إلى القاعة، سمعنا كلام زيتون وشريكه سيروان كاجو، المليء بالتخاذل والدونية تجاه الإسرائيليين، وقد وصفهم بأنهم ملائكة في الشرق الأوسط، ولم نسكت. صراحة، لم يثر غضبي موقفهم من القضية الفلسطينية، كما ثار بركان غضبي عند تكلّمهم عن الجولان المحتل، فقد عبّروا عن قبولهم ببقاء الجولان تحت الاحتلال الإسرائيليّ؛ لدواع “أمنية”، منها “تكوين حيّز آمن وخالٍ من الطائرات”، يحافظ على أمن “إسرائيل”، وكما زعموا “على أمن سورية”.
أحزنني كلامهم ذلك جدًا.
أعلم جيّدًا، في الجزء العقلانيّ من إدراكي للأمور، أن عليّ ألّا آبه بكلامهم، فهم مجرّد عملاء، لا يمثلون الشعب السوري الذي أنتمي إليه أبدًا، يمثّلون أنفسهم فقط. ولكنّي بعد الرفض الفعلي الناجح للمؤتمر بالصياح والاحتجاج، وبعد أن نعتَني عصام زيتون بأنني وصديقاتي “داعشيّات”، وبعد أن رفع لي إصبعه الوسطى، وقال لي “عيب عليك، أنت تعيشين في جنة عدن في إسرائيل”! “لا تعلمين ما هي سورية”، وبعد تبادل النكت والقصص والفرح بنجاحنا في التعبير عن رفضنا لهذه الزيادة التطبيعية مع أصدقائي الفلسطينيين؛ عدت إلى غرفتي الصغيرة التي كنت قد علّقت فيها عَلم الثورة السورية، فواجهني هذا العلم بعيونه الحمراء، وكانت عيوني حمراء أيضًا، ليس فقط بسبب الإنفلونزا التي ملأت مجاري أنفاسي، وإنّما أيضًا بسبب (ما قد يبدو لنا للوهلة الأولى) ما وصلت إليه الثورة السورية العادلة، من تشويه وتحريف واستغلال.
حينذاك، بدأ الجزء الشاعريّ من إدراكي للأمور بمخاطبتي: فتذكّرت حلب.. تذّكرت حبّي لسورية، وحبي الصادق للثورة.. تذّكرت كيف كبرت على الثورة.. تذكرت نفسي طفلة في الثالثة عشر من عمري، وأنا أجوب شوارع مجدل شمس، من مقهى “عود النعنع” إلى ساحة الشهداء “بيت التل”، لكي أشارك بلهفة وفرح لا يوصفان، بتظاهرات دعم الثورة السورية. تذّكرت السعادة التي غمرتني، كطفلة، لحظة رفعت علم الثورة للمرة الأولى، ولحظة هتافي “ما في للأبد.. ما في للأبد”. للمرة الأولى، تذكّرت كيف دُهش كل من هم أكبر منّي سنًا، في المقهى “المعارض”، عندما طلبت منهم أن يشرحوا لي ما يحدث في “بابا عمرو”. وأين تقع بابا عمرو أصلًا. طبعًا، كل ذلك كنت أفعله، دون علم والدي الذي ظل يخاف عليّ من السياسة منذ البداية، فلطالما كنت فتاة مسيّسة ووطنيّة، لا أعلم لماذا وكيف حقًّا!.
هناك، في عود النعنع، في حضرة العيون الحمراء لثورتنا، التقيت بفدوى سليمان، سمعت عنها وعن صبايا الثورة من “الكبار” في ذاك المقهى. فدوى كانت قدوة بالنسبة إلي، منذ اللحظة التي شاهدت فيها الفيديوهات التي تظهر فدوى وهي تقود التظاهرات في حمص ضد النظام. الآن، أفهم أن لهفتي وإعجابي الكبيرين بفدوى، انبثقا من توقي لأن “أصبح مثلها عندما أكبر”. لطالما أردت، كطفلة أيضًا، أن أقود طريقًا ما من طرق الحريّة لسورية وللجولان. ومرّت السنون، ولم أنسَ فدوى.. كنت أعيد مشاهدة فيديوهات تظاهرات حمص بين الحين والآخر، ولا سيما قبل النوم.
بكيت ساعات على فدوى، كما بكيت حلب، في صباح يوم مشؤوم من أغسطس.. بكيت الثورة.. بكيت نساءها.. بكيت حلمي كطفلة بأن أكون مكانها، بكيت أحلام فدوى، بكيت الرمز النسائيّ الذي ألهمني، الذي شجّعني، وعلّمني أننا نحن -النساء- نستطيع. أننا نحن -السوريات- نستطيع. بكيت لوهلة ثورتنا. بعدها رأيت منشورًا على (فيسبوك)، كُتب: فيه إننا، بحزننا الكبير على فدوى “لم نرثِ فدوى بحد ذاتها، رثينا فيها كل ما حلمنا به، وضَعنا موتها وجهًا لوجه أمام خيبتنا الكبرى وخساراتنا المهولة، وأمام تشردنا وخوفنا وضعفنا، موتها عرى ذاكراتنا، وكشف لنا كم نحن بائسون، جميعنا”.
هل هذا هو فعل التحديق للثورة بأعينها الحمراء؟
هل رثاء فدوى، هو حقًّا رثاء ثورتنا؟
لربّما، في الجزء العقلانيّ من إدراكي للأمور، أميل للقبول بهذه المعادلة، ولكن جزءًا آخر، عقلانيًّا أيضًا فيّ، يرفض هذه المعادلة، فأخبِروني: (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)؟
فدوى قد غادرتنا جسدًا، ولكني ما زلت أستطيع أن أرى فيديوهاتها، قبل النوم، ما زلت أستطيع أن أجد رمزًا نسائيًّا يمثّلني، ما زلت أستطيع -وقد كبرت- أن أحمل الثورة معي في كل مكان. أن أحمل فدوى، كفكرة، معي إلى كل مكان. فكيف لفكرة أن تقتل؟ وكيف لثورة أن تقتلع، بعدما انزرعت عميقًا في ماهيّات وتقاسيم نفوسنا؟
“الثوريون لا يموتون أبدًا” جملة لطالما قرأتها عنوانًا لكتاب يجلس على رفوف مكتبة أبي لسنين طويلة، حتى أتت الثورة السورية، وعلمتني معنى عنوانه. نعم، هذا هو فعل التحديق بعيون ثورتنا الحمراء. ولكن، لا ولا ولا.. نحن لا نبكي فدوى، لأننا نبكي ثورتنا. نحن نبكي فدوى، لأننا نبكي فدوى. لأننا نبكي فدوى جسدًا؛ لأن الأحمر في أعين وطننا ينعكس على أعيننا.
الثورة، وفدوى، ساعداني على تحقيق انتصار صغير في الجامعة العبرية، رغم حرقة قلبي على هزيمة حلب. وفدوى -الفكرة والثورة- ستساعدني، مهما طال الدرب، على تحقيق الانتصارات. لطالما كنتُ فتاة مسيّسة وطنيّة، ولكنّي الآن أدرك جزئيًّا لماذا. فبكل حق: الثوريات لا يمتن أبدًا.
وداعًا فدوى الجسد. ولا وألف لا، لوداع فدوى الفكرة.
هذه هي أبديّتك فدوى.
[sociallocker] [/sociallocker]