on
“الإنسان أجمل من العقل”
سوسن سلامة
تعرفت على الفنان فاتح المدرس وزوجته شگران الإمام في مرسمه، وكنت في المرحلة الإعدادية، فاجأتني ملامحه الحادة اللامبالية التي كانت تتحدث معنا والتي جعلتني أشعر بفقدان السمع؛ لينصب جام غضبي وتركيزي واهتمامه على ما رأيته من لوحات مبعثرة هنا وهناك، وأوراق ملصقة على الجدران، كتبت عليها جمل بخط اليد وألوان وريش وفوضى وشاشه لوحته الأخيرة. تلك الفوضى الفنية أصبحت مفاجأتي الأمتع التي جعلتني أنسى والد صديقتي النحات السيئ الحظ والظرف محمد فؤاد ناصر الذي جاء بي إلى متحف فنان متفرد حفر في ذاكرة طفولتي جمالًا لا يُنسى.
كان ما وصفته متحفًا، مرسم خلوته، يفرغ فيه ما تجود به قريحته، وسـردابًا يصل بين عالم الوعي الخارجي وعوالم الإبداع المدهش، بما فيه من ملامح وأدوات ومجالس كانت موئلًا للعديد من الفنانين والأدباء والمثقفين والمريدين، الذين سحرتهم عوالم المدرس وطقوسه وجرأته في فنه وحديثه. ومن هذا المرسم خرجت آلاف اللوحات الصغيرة والكبيرة، الزيتية والمائية، التي تحمل توقيع “فاتح المدرس”.
غيرت تلك اللحظات الكثير من رؤيتي؛ فلم أستطع أن أبقى تلك الفتاة التي كنت عليها؛ إذ زادتني تمردًا مقيدًا وحبًا للفن والجمال وثقافته وإبداعه الحر، لم أستطع أن أكون ما قرره لي قدر تلك الزيارة، كما لم أستطع أن أكون شخصًا آخر.
سعادتي بتلك اللحظات خلقت في أعماقي، رؤية جديدة ومباشرة، فالياسمينات البيضاء وكثافتها التي كانت منثورة، عند خروجنا من مرسمه، حفرت ضياءها في خلايا ذاكرتي كما لحظات تلك الزيارة الخاطفة، لذلك أراني -حتى اللحظة- أقرأ بنَهمٍ وأعرف كل ما يخص الفن بأنواعه وجماله، والقبح الذي يطاله، إلى أن أصبحت متعتي تتحول إلى ألم، عندما أعي ما أوصلنا إليه الجشع وطمعه.
قيل لي لاحقًا إنه كان من أكثر الفنانين التشكيليين، ربما في العالم، الذين يتخلون عن لوحاتهم بسهولة، وأنا من وصفهم بخلاء لوحاتهم، في الوقت الذي هربتُ فيه من قساوة ملامحه إلى الضفة الأخرى من مرسمه، فهو الفنان الذي اعتاد إهداء لوحاته لأصدقائه، بمجرد أن يعبر صديق عن إعجابه بلوحة، ما عدا تلك التي يحاكي فيها أمه، صاحبة الأثر الكبير في إطلاقه إلى حياة الفن الخالد. ولكن مفاجأتي السخيفة الطفولية، بما رأيته، كانت أكبر قيمة، وإلا لكنت تجرأت بطلب لوحة ما. ويقال إنه نشأ في بيئة تجهل الفن التشكيلي، واستطاع أن يمحو أمية الفن ويحرره من الجهل والتخلف.
لم يكن فاتح بعيدًا عن أبناء وطنه وهمومهم، فهو فنان عاش معهم وعايش ظروفهم المختلفة، وتميزت جميع لوحاته بشيء من الحزن؛ فأعطت صورة عن طفولته المعذبة ومراهقته الصعبة التي تحمل فيها الكثير من الألم والوحدة.
تنطوي تجربته على حسّ مأسوي يغلّف الوجوه الغائمة التي تحتل مساحة لوحته. سكب المدرس حزنه الريفي في لوحاته، وظلّ لصيقًا بألوانه المستمدة من بيئته الأولى. احتضنت لوحته حالات من غيبوبة الأسطورة وغمامية الحلم، واتسعت لنوافذ كثيرة مطلة على الذاكرة والهواجس الطفولية التي تسكن مأسوية الفراغ، إلى أن غدا أبرز ممثلي “الواقعية التعبيرية” التي لا تخاف التجريد، وأحد أهم التعبيريين العرب. تفاعل المدرس مع الفنون الشرقية القديمة، ومزجت تعبيريته الحديثة التراث المحلي، والمخزون الثقافي العربي الإسلامي، بالأسئلة الكونية، ومشاغل الإنسان المعاصر. ولم تكن دراسته للفن، في روما ثم في باريس، عائقًا أمام تأكيد هويته وجذوره الحضارية. فهذا الهاجس كان عنوان مغامرة مستمرة وبحث جمالي معمّق لبناء لغة تشكيلية، تعتمد تجريد الأشكال واختزالها إلى مجرد علامات وخطوط، من دون الغوص في تفاصيلها الواقعية أو التخلي عن الهموم الإنسانية”.
تخبرنا لوحاته أنه فنان ذو وجوه متعدّدة تعكس شمسه الداخلية، هو وجودي أحيانًا أو سيزيفي متصوف أحيانًا أخرى، يجعل لوحاته السوريالية تأخذ تميزًا ساحرًا، لا تشرحه لنا إلا حياته وطفولته القاسية في رحلته.
إن الجشع والطمع اللذين أشرت إليهما سابقًا، أديا إلى اهتمام شرق أوسطي زائف بالفن ولوحات المشاهير من الفنانين التشكيليين؛ وبالتالي إلى ارتفاع الطلب عليها وارتفاع أسعار لوحاتهم. تلك الفورة في الشراء والاستثمار في سوق الفن، نتج عنها في يومنا الحالي ازديادُ وجود لوحات مزيّفة تحمل توقيع المشاهير منهم، كما حدث بلوحات الراحلين محمود حمّاد، ولؤي كيالي، والفنان الأسطوري “فاتح المدرس”، الأمر الذي ساهم اليوم في التشكيك بأصالة بعض الأعمال التي تعود لما أنجزه في مرحلته الأخيرة المعروف بها، وفي القديم منها، لا سيما الأعمال السوريالية الأولى، في خمسينيات القرن الماضي، التي لا تحمل بصمته التعبيرية ولا مواضيعه التي اشتهر بها.
لوحات فاتح المدرس هي لوحات ملونة ومكسوة بالجماليات البصرية داخل عالم سحري متكامل التعبيرية، تتداخل فيه الوجوه والأقنعة والشخوص الملتصقة بالأرض كعنصر من عناصرها الطبيعية، كأنه بذلك يؤكد انحيازه نحو ريفية، كانت النقطة التي انطلق منها ومضى في تجلياتها متحديًا ومطورًا ومنتميًا إلى تلك الطفولة البعيدة التي عاشها في إحدى القرى التابعة لمدينة حلب. لكن هذه الشخوص التي يبنيها المدرس كأعمدة، أو كقطع حجرية تشبه شواهد قبور، قلما تمنح الألفة بقدر ما تمنح الأسى، شخوصها تشبه شواهد القبور لكنها، في أغلب الأوقات، تدنو من كونها كائنات ممسوخة تشبه إلى حد كبير حيزها الزماني والسياسي.
الغنى المعرفي والأكاديمي دعم الخلق الإبداعي لدى فناننا الأسطوري، متمثلًا بلوحاته وشخوصها المفتونة بروح المغامرة الفنية المتوهجة ليستحق بجدارة شهرته الواسعة.
في عام 1952 وبعد أن كانت لوحاته السوريالية المعروضة في واجهات المكتبات في شارع بارون بحلب، تستوقف المارة لأنها تحمل مفاهيـم جديدة لم تكن معروفة آنذاك؛ شـارك في المعرض الرسمي الذي أُقيم في دمشق إلى جانب أبرز الفنانين السوريين، لينال الجائزة الأولـى في التصوير للفن السوري المعاصر، عن لوحته “كفر جنّـة” التي كانت لوحة فقط من لوحات عالمه السحري الوجداني.
تمثل اللوحة مشهدًا ريفيًا من توءم ضيعة طفولته (حريتا) لفلاحة تحمل على رأسها حصادها اليومي، ممسوحة الملامح بسبب تأرجح لهيب الشمس في الأرضية، يتحد جذعها بجذع شجرة معمرة في قلب الأرض البكر في وحدة تصل إلى حد الالتحام الذي لا يحتمل انفصامًا.
شحنت اللوحة بتقنية قاسية حادة التعبير، وبتضاد لوني هائل، ناهيك عن عنف اللمسات المرسومة؛ فأكسبت هذه الشروط المأسوية تيارًا انفعاليًا جارفًا مجبولًا بطبيعة المادة والأدوات الفنية، لقد كونت لوحة “كفر جنة” انعطافًا واضحًا في انطلاقة فاتح المدرس التشكيلية، بل كانت قفزة مهمة في مسيرة التشكيل السوري، في مطلع النصف الثاني من القرن العشرين.
متاعب الحياة الاجتماعية وظلمها لم تمنع “فاتح المدرس” من متابعة مشروعه الفني والإبداعي، إذ تابع تحصيله الفني الأكاديمي ودرس في مدرسة الفنون الجميلة في باريس، لمدة ثلاث سنوات في بداية السبعينات، وشحذ مهاراته الفنية والتركيبية، ونال الدكتوراه عام 1972، قبل أن يعود إلى سورية للتدريس في جامعة دمشق، أستاذًا للدراسات العليا، وأصبح عضوًا مؤسسًا في نقابة الفنون، ثم نقيبًا لها مدة أحد عشر عامًا، الفرصة التي سمحت له بالتواصل مع غيره من الفنانين السوريين الشباب.
وهكذا كانت لوحة “التدمريون 1973” هي النموذج المميز الآخر لإنتاجه، فهو يصور فيها ملامح لرجال أسطوريين، وآلهة الخصب، بإحساس فطري رفيع، وخطوط عفوية واضحة، تكسوها ألوان تحاكي في توضعها وبنيتها ومناخاتها ألوان الأرض التي تزخر بها تدمر في حمرتها وسمرتها، عبر أشكال تشبه الدمى المضغوطة التي كانت تصنعها النسوة في الريف السوري من الخِرَق المتعددة الألوان.
تبدأ القدرة التعبيرية الجامحـة في لوحته، منبثقة من ذاك الصراع القائم بين الخطوط والألوان والأشكال المنجزة التي تتشكل في خلايا اللوحة، والمساحة المتولدة من علاقة الأشكال المنجزة، إذ يتجدد الرسم وانفعالاته، تبعًا لشخصية مبدعها المفتونة بروح المغامرة في اقتحام عالم الذاكرة، وتحرير مكنوناتها الدفينة بأدوات فنية مضيئة دعمت شهرته الواسعة.
المصور البارع “فاتح المدرس” كان فنانًا كاملًا متكاملًا، فقد كان كاتب قصة أيضًا وشاعرًا شغوفًا بالموسيقى وبالعزف على آلة البيانو، وفيلسوفًا -ربما- لأنه كان صديقًا لـلفيلسوف الفرنسي الوجودي “جان بول سارتر”، فقد حفلت حياتـه بعدد من الأنشطة الأدبيـة إلى جانب إنتاجـه التصويري الغزير. ففي عام 1962 أصدر مع شريف خازندار ديوان (القمر الشـرقي على شاطئ الغرب) باللغتين العربية والفرنسية، كما أخرجت السينما السورية ثلاث قصص له في ثلاثية بعنوان (العار) 1973، وصدرت له مجموعة قصصية بعنوان (عود النعنع) 1981، وديوان (الزمن السيئ) مع صديقه حسـين راجي.
كانت كتاباته الشعرية تميل إلى السوريالية، في حين كانت قصصه تحمل ملامح الواقعيـة النقدية. أما إنتاجه التصويري، فقد كان يتأرجح بين التجريد والتشخيص.
سأنهي مقالي عند هذه الضفة المشرقة من فنه، لعجزي عن إضافة المزيد على ما تم وصفه وشرحه بإسهاب جمالي عن حياة فنان كامل ومتكامل؛ لأنني أرى أن كل الدراسات وتوصيفاتها واحتفاليات التمجيد التي تبناها تلامذته ومحبيه ومعجبيه كل سنة، وخلال ثماني عشرة منها في ذكرى رحيله، لا تليق بأسطورة الفن العالمي “فاتح المدرس” الذي قال: “أرسم لأُدرِك من أنا”.
المصدر