بمنأى عن السحَرة


muhammed bitar

تحيّرت ماذا أكتب عن المدينة التي أحبها، وهي مكلومة منذ أيام؟
تلك الظهيرة اللاهبة، كنت غادرت مكتب اللاجئين (سَيار) في الحي الصيني، بعد تخليص أوراق. قطعت شارع الرمبلا من رسمة خوان ميرو إلى محطة المترو عند ساحة كتالونيا، متوجهاً نحو البيت في وادي الخليل. قيّلت واستيقظت بعد ساعتين، على تلفون من فلسطين، أعقبته تلفونات من أصدقاء إسبان، وأكراد يعيشون هنا.
والآن، بعدما استُوعِبت الكارثة (ولم تُستوعَب تأثيراتها بعد ـ فلا أحد يعرف ما يمكن أن تفعله حكومة اليمين في مدريد)، أسأل: ما الذي يستطيع أن يكتبه كاتبٌ؟ وهل عماءٌ إرهابي بهذا النوع، ينفع معه التوسّل بالعقل أصلاً؟ أَيكفي ـ مثلاً ـ القول إن الجُناة مجرد أطفال مجانين غُرّر بهم، فأساءوا إلى كل من يحمل دينهم ولغتهم، قبل أن يسيئوا للآخرين؟
داومت في الثلاثة أيام التالية، على حضور الذكرى في الموقع، وسط الورود وقصاصات الورق والشموع. وفي يومٍ منها، التفتّ فإذا بالملك وقرينته على بعد خطوات، يحيطهم الناس دون أثر مرئي للأمن.
في يوم آخر، خرجت مجموعة صغيرة من العنصريين ـ وأشهد أن بعضم غير إسبان ـ فانبرت لهم مجموعة كبيرة من عابري السبيل. ولولا تدخل الشرطة، لحدث ما لا يحمد عقباه.
هذا هو الشعب الإسباني، وهذا هو جوهره النبيل، حتى في أصعب اللحظات.
إنه الأقرب إلينا والأحنّ علينا من جميع بلدان أوروبا.
أما كتالونيا، فما لا يعرفه البعض، أن حوالى خُمس ساكِنَتِها من الغرباء. كما أن حوالى أربعة أخماس الأشقاء المغاربة في عموم إسبانيا، يعيشون في مدنها وقراها.
وطبعاً لم يأتِ هذا صدفة.
على أن المؤسي في الأمر، رؤيتك للمدينة الأكثر انفتاحاً وحرية ـ في جنوب القارة ـ وهي تلملم جراحها، مذهولةً، غير مستوعبةٍ ما حدث. فهو الأول في تاريخها، منذ انتهت الحرب الأهلية قبل نحو ثمانين عاماً.
كذلك، مؤسٍ أن تقول عمدتُها اليسارية: “لن يُثنينا عملٌ كهذا عن جعْل برشلونة مدينة للاجئين”.
بيد أن ما آساني أكثر، هو حديثي مع سيدة مغربية شاركتنا الذكرى، وهي تبكي وتقول إنها تخشى ـ بينها وبين نفسها ـ أن تكون متهمة، ناهيك عن تأنيب الضمير. لقد خجلت من جيرانها بعد الفاجعة، فلم تبرح شقتها لأيام.
ضحايا أبرياء من أربعين بلداً ونيّف، وشعب بريء من أربعين مليوناً ونيّف، يدفعون حياتهم وطمأنينتهم ثمناً لنسخة مصنّعة من “إسلام” تكفيري (صار كالأنترنت، عابراً للحدود) بطبعاته المختلفة.
هذا “الإسلام” الذي زرعته ورعته دولتان معروفتان في العالم ـ عبر أدواتهما في المنطقة ـ منذ أربعين سنة. زرعتاه من أجل مصالحهما الدنيئة، وها هو الزرعُ قد أتى أُكُله، في منطقتنا وفي غير بلد. جرياً على قاعدة مفادها: ليس من النادر انقلاب السحر على الساحر. أو لعلّه أحد وجوه ما قصده هيغل حين تحدث عن: “مكْر التاريخ”.
ومرة أخرى نسأل: ما ذنب البلد الجميل، وهو بمنأى عن السحَرة؟




المصدر