قرية “ممتنة” هيروشيما سورية بأيدي أسدية


سيسيليا طويل

من غير ضجيج تبدو قرية “ممتنة” المهجورة، كأوابد من الزمان السحيق، على الرغم من أنها كانت تنبض بالحياة منذ وقت ليس ببعيد، تنبئ مرافقها وجدران بيوتها المدمرة عن الساعات الأخيرة لأهلها، وهم يرحلون قسرًا في حلكة الليل البارد، بين نيران القصف، والقفز إلى يومهم الأول في النزوح.

بين خطي مواجهة

تقع قرية ممتنة في ريف القنيطرة، ويبلغ عدد سكانها نحو 3500 نسمة، في القطاع الأوسط الشمالي، ضمن خط المواجهة مع “إسرائيل” تحيط بها سرايا اللواء 90 الذي يقوده العميد زهير الأسد، (لواء مكون من 3500 – 4000 عنصر، ويشكل مع اللواء 61 الذي أنهى الثوار عمله نطاقَ حيطة، على امتداد خط الجولان المحتل، وهو أكبر من أي لواء عادي، حسب ما أوضح الرائد المنشق قاسم نجم، قائد الفرقة الأولى مشاة ريف القنيطرة، إذ يمتد عمله إلى مجمل أراضي ما تبقى من القنيطرة، بعد نكسة عام 1967)، وقد ظلت ممتنة معزولة، منذ نكسة حزيران، عن محيطها السوري حتى عام 2000، حين فتح لها نظام الحكم في دمشق نافذة سياحية مقيدة أمنيًا، تكشف مدى تراجع القنيطرة الكارثي على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي. “ممتنة” اليومَ خاوية، منذ تهجير أهلها ليلة 28 تشرين الثاني/ نوفمبر 2013، التهجير الذي حوّل “ممتنة” مع جوارها من القرى الثائرة، إلى خط مواجهة مع قوات النظام من الجهة الشرقية.

سلمية حتى حين..

يلفت النظر خروج مجموعة من شباب قرية ممتنة، في وقت مبكر من عمر الثورة السورية، في أول مظاهرة سلمية يوم 23 آذار/ مارس 2011، لم يكتفوا فيها برفع شعارات الحرية، بل مزقوا صور بشار الأسد، حسب ما صرح أبو جعفر ممتنة (40 عامًا) أحد قادة الحراك السلمي، قبل تحوله إلى قائد عسكري، في الفرقة الأولى مشاة في ريف القنيطرة، ذلك الحراك الذي ساهم فيه بالتنظيم والتنسيق غياث مطر ضمن (تنسيقية أبناء الجولان في القنيطرة)، كتعبير عن جيل معارض جديد، لا ينتمي إلى معارضة تقليدية، فلم يكن ريف القنيطرة الثائر بمنأى عن أساليب القمع، التي استخدمت في المدن السورية الخارجة على طاعة النظام. من حيث اغتيال قادة الحراك السلمي والتمثيل بجثثهم والتشهير بها؛ بغية ردع الحاضنة الشعبية، وتضييق دائرة الحراك وتقسيم المجتمع ما أمكن.

انتقلت أدوار مؤسسات الدولة إلى نقيضها على مرأى مواطنيها، حيث تحول مشفى مجدولية إلى ثكنة عسكرية وإلى أداة مولدة لآلام الناس وقتلهم، لا العكس، ودُجج بمضادات الـ 23 والـ 14.5 م. ط، وقناصات، تستهدف المارة في الشوارع والبيوت في قرى ممتنة وأم باطنة ومسحرة. ويؤكد تجوال العقيد سامر حاطوم على ظهر دبابة، أثناء مداهمات بيوت الأهالي، رسوخ الدور العسكري النقيض، لا سيما حين ألقى حاطوم القبضَ على عكرمة الدعاس (30 عامًا) من ثوار بلدة جبا السلميين، وقام بتصفيته وأخيه وائل وابن اخته صالح.. ثم أخذ يسحل جثته بالدبابة أمام الناس.

لكن المشهد يحتدم، بعد إحكام الحصار القاتل وأغلاق المنافذ كلها من وإلى دمشق؛ فخرجت الثورة عن سلميتها نحو العسكرة، وجرى أول عمل عسكري في شهر تموز 2012، وتصادف مع شهر (رمضان)، وفي إثره حرر الثوار مفرزة الأمن التابعة لقرية بريقة، وحاجزًا عسكريًا في بئر عجم، وعلى الفور لاحت نيّات نظام الحكم، عبر قرار زهير الأسد بإزالة ممتنة ومسحرة وأم باطنة والقرى الأخرى من الوجود، إن لم يسلّم وجهاء القرى “المسلحين” إلى قوات النظام. ويضيف مختار قرية ممتنة عبد الرزاق الأحمد أبو محمد، نقلًا عن زهير الأسد قوله لوجهاء القرى: “القنيطرة آمنة، وإذا تحركت أي حركة سنضرب بيد من حديد”. غير أن الثوار في 14 تشرين الأول/ أكتوبر 2012، شنوا هجماتهم العنيفة على عدة سرايا تابعة للواء 90، كانت تخنق قراهم، فحرروا سرية المدفعية شمال شرق قرية ممتنة، وسرية الخوالد في الشرق منها، وسرية الدبابات الواقعة جنوب شرق ممتنة، وهي أول سرية دبابات تتحرر في سورية، كما حرروا مشفى مجدولية من عاره الأخلاقي.

تكتمل عناصر المأساة بتاريخ 1 كانون الأول/ ديسمبر 2013، مع ظهور أول غارة للطيران المروحي على قرية ممتنة، تستهدف الشارع الرئيسي شمال القرية، قرب مدرسة أحمد حسين العر الابتدائية. وهو أول ظهور للطيران المروحي والحربي في سماء القنيطرة منذ عام 1973، لكن مع فارق أسبقية جارتها قرية مسحرة، بتلقي أول قصف جوي من الطيران الحربي 16 تشرين الأول/ أكتوبر 2012.

 الرحيل المر… سرقة الحياة

الخميس صباحًا 28 تشرين الثاني/ نوفمبر 2013، وتزامنًا مع محاولة قوات النظام استعادة سرية الدبابات في قرية رسم الخوالد، تُقصف “ممتنة” والقرى المجاورة، لإشغال الثوار وتشتيت قواهم، لا يكتفي المقدم عماد العبود (لواء 90) بالرد على استنكار مختار ممتنة على قصف المنازل بالقول: “هؤلاء الإرهابية أولادكم، أنتم من ربيتموهم”، بل يهدد بـالتدمير: “لن نبقي حجرًا على حجر في القرية”؛ ليدرك الثوار حينها نية النظام باستخدام المدنيين وسيلة ضغط عليهم، ويقررون سرًا النجاة بحياة الأهالي ومساعدتهم على النزوح.

الخميس ليلًا في 28 تشرين الثاني/ 2013، وتحت القصف المتقطع، تنزح العائلات، تنتشر على الطرقات بلا أي نوع من الإضاءة خوفًا من استهداف القناصة، إلا أن الموت يخطف 13 شخصًا، اثنان منهم بسبب اصطدام الحافلات ببعضها قرب رويحينة، هما خالد حسيان أبو وليد وزوجته، فيحمل ذويهما جثمانهما معهم كأول ذاكرة لنزوحهم في لحظاته الأولى، أما على أطراف رسم الخوالد، فيختبئ ستة أشخاص داخل غرفة، لتباغتهم قوات النظام وتقوم بتصفيتهم، وهم كريم الخالدي وزوجته ووالدته وطفلاه، بينما نجا سادسهم عبد الجبار الخالدي، بعد تلقيه عدة طلقات في البطن، يقول: “أدركت أن أقاربي كلهم ماتوا.. لم أسمع صوت أي أحد منهم.. بقيت أتنفس.. لا أستطيع رؤية شيء.. بقيت قرابة ساعة إلى حين قدوم عناصر الجيش الحر ليسعفوني”، وفي الأثناء ذاتها ينفجر لغم أرضي بستة أشخاص آخرين جراء انحراف حافلتهم على الطريق الزراعي الواصل بين جبا – ممتنة، وهم: محمد أبو قاسم، وخلدون جمال الأحمد، وابنتاه رجاء عيسى الأحمد 16 عامًا وصفاء عيسى الأحمد 10 أعوام وطفل، تيم حسين العر، عمره سنتان، وفاطمة أحمد العر جدة تيم.. ما زاد في المشهد المروع أن مجموعات العائلات الفارة على امتداد الطريق من ممتنة إلى مجدولية حتى بئر عجم وبريقة وجبا – الصمدانية الغربية وكودنة ورويحينة والمشيرفة.. تهتدي ببعضها عبر أصواتهم الخافتة المخنوقة.. ويصل كثيرون الى قريتي بريقة وبئر عجم، غير أن القريتين كانتا تتعرضان لقصف من تلي الأحمر الشرقي والغربي، تصيب إحدى شظايا القذائف أم أيهم، فتقطع رجلها.

29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2013 يوم ثلجي، “ممتنة” خالية من سكانها بشكل كامل، يشترط العميد زهير الأسد، عبر قنوات اتصال، على المختار تسليم “المسلحين” كي يوقف إطلاق النار عن القرية التي لم يبق فيها إلا سبعون عنصرًا من الثوار بأسلحتهم الخفيفة والمتوسطة، ثم يكتشف خلو القرية، فيأمر بشن هجوم عنيف لاستعادتها، في أول حملة يقودها المقدم عماد عبود (تسلمَ قيادة المعارك بدلًا عن سامر حاطوم) الذي كان يعمل على خطة تتضمن ثلاثة محاور: الأول اقتحام “ممتنة” مباشرة تحت غطاء ناري غزير. والثاني فتح منفذ نبع الصخر – مسحرة، لقطع الطريق على ممتنة من جنوبها. والثالث التفاوض.

يفشل المحوران الأول والثاني فشلًا ذريعًا، أما التفاوض فقد جرى على مدى ثلاثة أيام، بعد نزوح الأهالي مع حسن هزاع محمد، وهو أحد قادة مجموعات ثوار ممتنة آنذاك، عرض العبود على هزاع هدنةً يوضع فيها حاجز للجيش الحر على سرية الإشارة مقابل حاجزين لقوات الأسد، أحدهما أمام سرية الإشارة والآخر على مفرق أم باطنة – جبا، إضافة إلى الإفراج عن معتقلي ممتنة ومسحرة وأم باطنة ورسم الخوالد، وعدم التعرض لأي مواطن من قرى القنيطرة الثائرة، إضافة إلى دفع مبلغ مليون دولار أميركي يدفعها العبود، لكن الخلاف الذي أفشل الهدنة هو شرط المقدم العبود بتصوير رفع علم النظام في سرية رسم الخوالد، لصالح تلفزيون نظام الأسد ما يعنى سيطرتهم عليها، غير أن الثوار رفضوا ذلك جملة وتفصيلًا، وتتالت على ممتنة الحملات المباشرة التي وصلت إلى نحو 20 حملة على مدى 9 شهور، ضمن محاولات مضنية لاستعادتها، تعرضت خلالها للتدمير الكامل؛ ما جعلها مكانًا غير آمن.

تاليًا انتقل العبود إلى قيادة تل أحمر شمال خان أرنبة، بعد أن قطعت قدمه في إحدى معارك استعادة ممتنة، بينما قتل سامر حاطوم في معركة (وبشر الصابرين ـ 26 أيلول/ سبتمبر 2015) وتستبدل جثته بمعتقلتين اثنتين لدى النظام من حرائر داعل في ريف درعا الغربي، قاد العملية أبو سليمان العز قائد لواء العز التابع لألوية “سيوف الشام”.

في عام 2013، تشاركت “ممتنة” في مصير ما آلت إليه من تهجير ودمار كامل لقرى العجرف ـ رسم الخوالد ـ أم باطنة ـ مسحرة ـ الحميدية ـ الطيحة ـ الرواضي ـ والصمدانية الغربية. لتلقى تلك القرى نهاية مركز مدينة القنيطرة (المشهور باسم المدينة المهدمة) الذي دمرته “إسرائيل” سنة 1967، لكنها اليوم -وإن بدت كأوابد من الزمان السحيق- محررة، وعصية على نظام وكيل استعماري بامتياز، وعلى الرغم من دمارها، استطاع نحو أربعين عائلة العودة والصمود فيها. “ممتنة” اليوم واحدة من قرى هيروشيما صامتة في جنوب سورية، تضاف إلى قائمة المدن السورية المدمرة على يد حُماتها، وتواجه مصيرها المجهول بين خطي مواجهة لعدوين ظاهريًا، غير أن فرادة القنيطرة تبقى في أنها منسية عن قصد.




المصدر