تشومسكي وفلتشيك.. سجالٌ في كتاب


مالك ونوس

“أهمية ثورات الربيع العربي تأتي من أنها حدثت بعد عقودٍ من الجمود ومن الخوف والخنوع لحكام مستبدين” “معظم الدول الغربية لا ترغب بقيام ديمقراطية حقيقية في الدول التي ثارت”

يصرُّ المفكر وعالم اللسانيات الأميركي نعوم تشومسكي، في أغلب كتاباته السياسية، على أن تاريخ الولايات المتحدة هو تاريخ الغزو الذي بدأ مع اكتشاف القارة الأميركية، وإبادة سكانها الأصليين، وصولًا إلى آخر صاروخٍ تطلقه طائرةٌ أميركية من دون طيار على تجمُّع قرويين فقراء، في أي جزءٍ من هذا العالم، لتسجلهم في سجل إنجازاتها، قتلى إرهابيين. وطبعًا، تبرِّر الولايات المتحدة، ودول الغرب عمومًا، أعمالها العدوانية ضد الشعوب الأخرى بأنها جزء من مساعي إحلال الديمقراطية وإرساء السلام في المناطق التي يغزونها. وهو ما يتحدث عنه تشومسكي في الكتاب المعنون: (الإرهاب الغربي، من هيروشيما إلى حرب الطائرات من دون طيار)، (On Western Terrorism, From Hiroshima to Drone Warfare) الذي صدرت طبعته الثانية باللغة الإنكليزية، في 20 شباط/ فبراير الماضي.

يضم الكتاب الذي ظهرت طبعته الأولى سنة 2013، عن دار بلوتو بريس (Pluto Press) البريطانية، ويقع في 224 صفحة، تسعة فصول إضافة إلى المقدمة التي كتبها الكاتب الأميركي من أصل روسي، أندريه فلتشيك، والذي ساجلَ تشومسكي وأجرى معه حوارات مطولة حول موضوعات متنوعة، أثمرت هذا الكتاب. وزيْدَت إلى الطبعة الثانية مقدمة بقلم تشومسكي الذي لا يقول فلتشيك عنه إنه: “الشخص الأكثر اقتباسًا في عصرنا الراهن”، إلا ليؤكد على أهمية (استنطاقه) الرجل حول الأمور التي تشغل بال سكان الكوكب في هذه الفترة، حيث يقول: “تبادلنا الملاحظات، وتباحثنا حول العالم”، منطلقًا مما يقوله عن تشومسكي إنه: “شجاعٌ في محاربة الظلم وسلب مليارات الرجال والنساء والأطفال العُزَّل حول العالم”.

يُعدّ الكتاب عرضًا لفكر تشومسكي السياسي، ورؤيته أغلب القضايا الشائكة في عصرنا، وأهمها قضية هيمنة الاستعمار الغربي القديم والحديث على دول العالم، وما تفرزه هذه الهيمنة من مصائب، وما تتطلّبه من أسلحة إعلامية واقتصادية وحربية، يعمل الغرب على تعزيزها صبح مساء، كيْلا تَهِنَ هذه الهيمنة أو يهدد دوامها قوةٌ تبزغ هنا أو هناك. ولذلك يرى الكاتبان أن النزاعات والفقر والمجاعات والحروب المتنقلة ليست سوى “تركة الاستعمار الإجرامية”، وهو عنوان الفصل الأول الذي يفتتحانه بالإفادة أن ما بين 50 و55 مليون شخص، قتلوا نتيجة للاستعمار الغربي والاستعمار الحديث، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وهو عدد يزداد وقابل للازدياد كل يوم، نتيجة الحروب التي تشنها الولايات المتحدة، خاصة ما تسميها “الحرب على الإرهاب” أو تلك التي يشنها وكلاؤها، في غير منطقة من العالم.

أما فصول الكتاب الأخرى، فمعنونة كالتالي: إخفاء جرائم الغرب، والبروباغندا والإعلام، والكتلة السوفييتية، والهند والصين، وأميركا اللاتينية، والشرق الأوسط والربيع العربي، والأمل يحدو الأماكن الأكثر دمارًا على الأرض، ويُختَتَم بفصلٍ عنوانه أفول القوة الأميركية، التي دائمًا ما يشدد تشومسكي على حتميتها، على الرغم من الخلجات التي تصيب الجسم الأميركي، وتصيب تبعاتها الآخرين. قد يكون الفصل المعنون بـ: “الشرق الأوسط والربيع العربي”، هو أكثر ما يهم القارئ العربي الذي يهمه أيضًا رأي تشومسكي بالثورات العربية، إلا أن القضايا التي تناقشها بقية الفصول تمسه كذلك، حيث تأتي وفق سياقٍ لا يمكن فصل حوادثه أحدها عن الآخر.

بالنسبة لفصل “الشرق الأوسط والربيع العربي”، يقرُّ تشومسكي بأن أهمية ثورات الربيع العربي تأتي من أنها حدثت بعد عقودٍ من الجمود ومن الخوف والخنوع لحكام مستبدين، وأنها خلقت لدى الطبقة العاملة توجهًا لإنشاء نقاباتها الخاصة المستقلة، كما في تونس ومصر. ويقرُّ أيضًا بأنها زادت من حرية التعبير، بمعنى أنها كسرت “تابوات” كانت مقدسة، وكان محرَّمًا على أبناء الشعب العربي العاديين، أو حتى كتابهم وصحفييهم، لمسُها. كما يشير تشومسكي إلى نقطة مفصلية في تعاطي الغرب مع ثورات الربيع العربي، وهي أن معظم الدول الغربية لا ترغب بقيام ديمقراطية حقيقية في الدول التي ثارت، إذ إن الأنظمة الديكتاتورية التي تعد جزءًا من تركة الاستعمار الإجرامية، هي ما يناسب أميركا وفرنسا وبريطانيا، وذلك لسهولة إملاء سياساتها عليها، مقابل السكوت عن ممارساتها بحق شعوبها.

ربما يحيلنا هذا الكلام إلى الفصل الثاني من الكتاب والذي يتحدث عن إخفاء جرائم الغرب، حيث تتولى الدعاية وأجهزة الإعلام القيام بهذه المهمة، وهي مؤسسات وصلت إلى حدٍّ تستطيع فيه إظهار الجاني ضحيةً، علاوة على إظهار حسن نيات القوى الكبرى. ففي وقتٍ يُظهر فيه قادة الغرب وإعلامهم تعاطفهم الشديد مع ضحايا الحروب التي تضرب المنطقة العربية، تعمل مصانعهم، وخبراؤهم العسكريين، على تزويد موقدي هذه الحروب بالأسلحة والمشورة لضمان اتقاد نارها.

تأتي أهمية الكتاب، أولًا، من عنوانه، إذ إنه في وقتٍ تسود فيه الإسلاموفوبيا دول العالم، وينحصر الإرهاب بالمسلمين أو العرب بالتحديد، يتجرأ من يتحدث عن إرهابٍ غربيٍّ، ربَّى الإرهابيين ورعاهم وألبسهم اللبوس الذي يناسب كل عصرٍ ومنطقةٍ وأطلقهم يخدمون مصالحه. وإن لم يكن هو من ربَّاهم، فإنه يدفع ضحاياه الفقراء إلى بيع أرواحهم لأي شيطان يمكنه أن ينتقم لهم من السيد الأميركي. وهو ما حصل في اليمن، حين كانت تتسع دائرة المؤيدين لتنظيم القاعدة في اليمن، كلما أمطرت الطائرات الأميركية من دون طيار قريةً في هذا البلد المنكوب، والتي لم توفر صواريخها من نوع “نار الجحيم”، حتى مواكب الأعراس، أو حتى تجمعِ فتيةٍ يلعبون كرة القدم في الفلاء، معتقدة أنهم إرهابيين يتدربون على القتال.

كما تنبع أهميته من أنه يأتي على أهم القضايا التي تشغل بال القارئ والمهتم، خاصة الراهنة منها، وتلك التي لم تفقد راهنيتها مع مرور الأيام، ويناقشها وفق نظرة نقدية تحيل إلى القارئ مهمة التبصر أكثر بها، للوصول إلى الفهم الذي عادةً ما يحتاج إلى كثيرِ نقاشٍ لتعزيزه.

لكن، ربما يُؤخذ على الكتاب أن النقاشات التي جرت على صفحاته، كانت بين متحاوريَن ذوي خلفيةٍ فكريةٍ واحدةٍ، وقد يشتركان بنظرةٍ سياسيةٍ متقاربةٍ إلى كثير من الموضوعات التي أثيرت. لكن، يُعد ما جاء فيه مراجعةً لقضايا، لا يختلف اثنان -هذه الأيام- حول يد الغرب الطولى في إدارتها وتوجيهها الوجهة التي يريدها. كما أن تاريخ الغرب الاستعماري، الذي تنتهج حكوماته الحالية سياسات، تعتبر استكمالًا لنهجها خلاله، وإن تغيرت الأدوات، هو تاريخ مثبت، إذا أراد الباحثون فهم حقيقة ما يجري هذه الأيام، عليهم مطالعته والانطلاق منه لتشكيل فهمٍ قويم.




المصدر