خطبة “داعشية” في كنيسة مونتريالية


ميخائيل سعد

وأنا في طريقي، يوم الأحد الماضي، إلى إحدى كنائس مونتريال العربية، كنت أظن أنني سأسمع صلاة عن روح سيدة سورية قتلتها الكهرباء في “سورية المتجانسة”، ولكن ما سمعته كان بعيدًا جدًا عن الترحم على “قتيلة”، والدعوة لها “أن ترتقي” إلى الجنة؛ لا علاقة للمعارضة السورية المسلحة بموتها، وإنما سمعت خطبة “داعشية” المضمون، تخرج من فم كاهن الكنيسة الأساسي؛ فقلت لابني الذي يجلس بجانبي: هذا، يا بني، كلام (داعش) الذي بسببه يقتل العالم السوريين، منذ ثلاث سنوات على الأقل!

في التفاصيل، أن المسيحيين -كغيرهم من أصحاب الديانات- يُصلّون على موتاهم، طالبين لهم المغفرة عن ذنوبهم، آملين أن يُنزلهم الله في جنّاته، ويقيهم عذاب النار، حتى لو كانوا لا يستحقون ذلك، ولكنها “حرمة الموت”.

دخلنا إلى الكنيسة، قبل ربع ساعة من بداية “القداس”، أي قبل الموعد المحدد، وجلسنا في منتصف قاعة الكنيسة شبه الفارغة، فنحن نعيش في الغرب، ومن أبسط العادات التي يجب اقتباسها عنهم هي احترام المواعيد، ولكن، لغياب “العصا”، فقد جاء عدد لا يستهان به من “المؤمنين”، بعد ساعة من الموعد المحدد، يعني قبل انتهاء “القداس” تقريبًا.

بعد الانتهاء من الطقوس الأولى والتراتيل والصلوات وقراءة نصّ من الإنجيل، اختاره الكاهن عن واقعة المرأة الكنعانية التي التقت المسيح، أثناء “خروجه” إلى صور وصيدا، وطلبت منه أن يُشفي ابنتها المريضة: “إِنَّ ابنَتي يَتَخَبَّطها الشَّيطانُ تَخَبُّطًا شديدًا”، وصل الكاهن إلى “عظة” الأحد، التي عبرها يتم إرسال الرسائل المهمة إلى الرعية، وكان يمكن تجاهل الربط بين النص الإنجيلي وعظة الكاهن، لولا مجموعة الأوامر والنواهي التي نطق بها، منتقدًا ومتوعدًا ومهددًا.

أولًا، رحب بالوجوه الجديدة التي تأتي إلى الكنيسة أول مرّة، وقد أحببتُ أن أقرأ فيها إشارة إلى الرجلين الملتحيين (أنا وابني) اللذين لم يحترما قواعد الجلوس والوقوف، حسب الأوامر التي كانت تظهر على اللوحة الإلكترونية الضخمة المعلقة فوق الهيكل، كي يتمكن جميع المؤمنين من قراءة وتنفيذ ما يُكتب عليها. لقد شعرت -أثناء العظة- بأننا “كنعانيان”، مثل “المرأة الكنعانية”، التي ورد ذكرها في الإنجيل، وبأن الواعظ يريد منا أن نرتمي أمامه على ركبتينا، لعله يشفينا من “شيطان” الديمقراطية والحرية والعلمانية.

لم يكن استنتاجي السابق مجرد هلوسة “أممية”، ومعنى كلمة “الأمم” التي ترد في الإنجيل، لمن لا يعرف، المقصود بها كل من هو ليس يهوديًا، كالكنعانية مثلًا، وإنما هو استنتاج استخلصته مما جاء في تتمة العظة التي سأشير إلى أهم النقاط التي وردت فيها، ليس حرفيًا، وإنما كما بقيت في ذاكرتي.

دهشة الديمقراطية

قال الكاهن، مخاطبًا المؤمنين: عندما يصل المهاجر أو اللاجئ إلى هذه البلاد تدهشه الديمقراطية والحرية، ويبقى مدهوشًا قرابة عشرين عامًا، ثم يفتح عينيه فلا يجد زوجته بجانبه ولا أولاده، وعرف عندها أي نوع من الخراب حملته تلك الديمقراطية، وإلى أي التخوم الخطرة قادته تلك الحرية. لم يعد الرجل راغبًا في الإنجاب من زوجته، فيبحث عن رحم يزرع فيه حيواناته المنوية، ولم تعد المرأة راغبة في الزواج، وعندما تريد ولدًا ليس أسهل عليها من التوجه إلى “البنك” لتشتري عبوة من الحيوانات المنوية لتلقيح بويضاتها، فتحصل على الطفل دون زواج. هذه بعض الحرية والديمقراطية التي يجدها المهاجر في هذه البلاد.

كنت، وأنا أسمع الكاهن، أتخيل مكانه “الشيخ زهران علوش”، وهو يخطب في أنصاره، في الغوطة، قائلًا لهم: “الديمقراطية تحت قدمي”. أما تنظيم (داعش) فله موقف أكثر وضوحًا، يقول في أحد بياناته: “لذلك من الثوابت -عند أهل السنة والجماعة- أنّ الدعوة إلى إقامة حكومة “مدنية تعدّدية ديمقراطية”، عملٌ مخرجٌ من ملّة الإسلام، وإنْ صام دعاتها وصلّوا وحجّوا وزعموا أنّهم مسلمون؛ لأنّها تدعو لصرف التحاكم الذي هو حقّ محضٌ لله تعالى، إلى الطاغوت الذي أمرنا الله تعالى بالكفر به”.

النقطة الأخرى الخطيرة التي وردت في عظة الكاهن: أن الآخرين -ولم نعرف من هم- يبدون أقوياء مقارنة بضعفنا فقط، لذلك يجب إعادة بناء الكنيسة بالدم لتكون قوية.

ما لم يتوقف عنده الكاهن المحترم هو أن الطلاق والخلافات بين الأولاد والأهل، ليس سببه الديمقراطية والحرية المرافقة لها، وإنما هو، تمامًا، بسبب انعدام الحرية والديمقراطية في الأسرة العربية -أيًّا كان دينها- في الوطن أولًا، وفي المهاجر ثانيًا، عندما يحاول الرجل التمسك بسلطاته البيتية التي نشأ عليها، مستعينًا، لتحقيق ذلك، بالدين ورجال الدين.

أما عن محاولة بناء الكنيسة بالدم، فإنني أنصح الكاهن المحترم أن يبحث، قليلًا، في الإنترنيت عما آلت إليه أوضاع سورية، عندما حاول ابن الأسد القضاءَ على ثورة الشعب السوري، بالدم. هذا الشعب الذي لم يكن يريد إلا الحرية والديمقراطية التي ننعم بها هنا في كندا؛ فكانت النتيجة أنه دمر الوطن واستخدم المواد الكيماوية ضد شعبه، والبراميل المتفجرة، وصواريخ السكود لقصف المدن السورية، فقتل ما يقارب المليون سوري، وهجر نحو عشرة ملايين، بحجة القضاء على “الإرهاب وحواضنه”.

في المحصلة، لم يكن هدفي من كتابة هذه الأسطر النيل من الكنيسة أو كهنتها، وإنما كان هدفي الحقيقي القول إن الفكر “الداعشي” الذي لم يسبق للعالم أن اتحد، كما اتحد لمحاربة هذا الفكر، موجود عند كل الأديان في منطقتنا العربية، واستنباته واحتضانه ليس حكرًا على المسلمين السنة، وإنما هو عند بقية الطوائف والأديان أيضًا.

قال لي أحد الأصدقاء الحماصنة، قبل أيام، وللعلم هو من أصول علوية ولا يزال مقيمًا في حمص: إن أبناء الأقليات، الذين يدّعون العلمانية، هم أكثر تشددًا وطائفية من (داعش) و(النصرة)، هذه الأيام.

ما العمل إذا كان التعصب هو القاسم المشترك، الآن، بين مكونات المجتمع السوري؟




المصدر