عن سيدة مغربية تعيش في باريس


هيفاء بيطار

تعرّفتُ في باريس على امرأة مغربية، اسمها “كنزة” عمرها 48 عامًا متزوجة من رجل يعمل سائقًا لباص في مدرسة للأطفال، ولديها أربعة شبان ذكور، تراوح أعمارهم بين 12 إلى 22 سنة. وكانت “كنزة” في سنتها الجامعية الثالثة في كلية الفلسفة، حين تزوجت وتركت الجامعة، ولا أعرف إلى أي حد هي نادمة على ترك الدراسة الجامعية. (كنزة لا تضع حجابًا، وترتدي لباسًا عاديًا، مثل الأوروبيات).

حكت لي “كنزة” إن أحد أبنائها تعرض للإدمان على المخدرات، بسبب رفاق السوء في المدرسة، وإنها عانت كثيرًا حتى شفي من الإدمان. همّ كنزة الوحيد هو وجود جامع واحد فقط صغير في مدينة (فيشي)، بينما في المدينة المجاورة (كليرمون فيران)، هنالك أربعة جوامع.

في الواقع صدمتني بما قالته، لكنني وجدت نفسي أنساق معها للحديث، لأعرف عمق إحساسها بالظلم، فقلت لها: لماذا لا تتقدمون بطلب إلى البلدية لتعمروا جامعًا آخر، فقاطعتني بانفعال وقالت: ومن قال لك لم نتقدم بطلب لبناء جامع جديد! تقدمنا لكنهم رفضوا، فقلت لها: في هذه الحالة، اطلبوا من البلدية أن تسمح لكم بتكبير الجامع أي ببناء عدة غرف إضافية، غضبت كنزة وقالت: حتى هذا الاقتراح رفضوه. سألتها: لماذا تعيشون في فرنسا إذًا؟ عودي إلى المغرب، إلى طنجة حيث تنتمين، فقالت أعوذ بالله! البطالة والفقر فظيعان في المغرب، وهنا أولادي يدرسون مجانًا، والدولة تسمح لهم بتناول وجبات الغداء مجانًا أيضًا، لأننا مصنفون فقراء (مع العلم أن ثمن كل وجبة غداء لتلميذ في فرنسا هي سبعة يورو يوميًا) لكن أولاد كنزة وأمثالهم لا يدفعون، ويتمتعون بالضمان الصحي التام، ومن حين إلى آخر، تأتيهم مساعدات من جهات عديدة في الدولة.

همّ كنزة الوحيد في الحياة هو بناء جامع أو عدة جوامع في فيشي. أتساءل: امرأة مثقفة، كانت تدرس الفلسفة، وهي في عمر النضج، وأم لأربعة شبان مهددين بألف خطر وخطر، من إدمان المخدرات إلى كل حالات الأمراض النفسية التي لا تحصى، ويعاني منها المراهقون في أوروبا خاصة، والمدهش أنها لا تطيق العودة إلى وطنها، بل تنظر إليه كبؤرة تخلف وفقر، أي إنها لا تشعر بعاطفة حقيقية وتاريخ يجمعها بالمغرب وشعبه. وهي في الوقت نفسه حاقدة على فرنسا، وتعتبر نفسها مظلومة، وأن الحكومة فاسدة لأنها رفضت طلبهم في بناء جامع. لكنني وجدت نفسي -وأنا أجلس للكتابة عن كنزة- أفكر وأجسد بذهني أربعة شبان أصلهم مغربي، ولدوا في فرنسا، وهم أولاد كنزة، ترى كيف يشعرون؟ وكيف يفكرون؟ وإذا كانت أمهم طالبة الفلسفة، وهي بعمر الحكمة، أشبه بكتلة من اللهب غضبًا وشعورًا بالظلم، بسبب رفض البلدية بناء جامع؛ فبماذا يشعر أولادها، وهم يرتادون الجامع الصغير كل يوم جمعة، والله أعلم ما يقوله خطيب الجامع! وأرجح أنه يحرض الحماسة والرفض لدى هؤلاء الشبان، ويغذي شعورهم بالظلم، بسبب سياسة فرنسا التي لا تساويهم مع المسيحيين وغيرهم في بناء الكنائس الكثيرة. أحسستُ بالهلع، وأنا أفكر في أن هؤلاء الشبان الأربعة (وأمثالهم) أولاد كنزة يمكن ببساطة أن يتحولوا إلى إرهابيين، فهم لا يملكون خلفية ثقافية وفكرية للدفاع عن أفكارهم، إذ لا أفكار خاصة بهم، بل إن عقلهم أشبه بشريط تسجيل فارغ، يقوم بعض رجال الدين المتعصبين أو جهات جهادية متطرفة أخرى باستلاب عقولهم، وكمن يصب الزيت فوق النار، يلهبون مشاعر هؤلاء الشبان بالظلم وبأوروبا “الكافرة الظالمة” التي ترفض بناء جامع، وهم (عدد المسلمين في فرنسا) عددهم يزيد عن ستة ملايين، والكثير منهم يدعي أنه يعاني التميز بينه وبين المسيحي الذي يتمتع بحقوق أكثر منه بكثير في مجال العمل، وهذا الكلام صحيح إلى حد ما. ولا يشعرون بأي معروف تجاه فرنسا، لأنهم بنوا جسورها وأبنيتها الفخمة وعُطب الكثير منهم في العمل. وخاصة الجزائريون الذين لا يختلف وضعهم عن المغاربة أو غيرهم من العرب، كل هؤلاء الشبان أحسبهم مثل أولاد كنزة المرأة المسلمة التي لا تطيق فرنسا الظالمة، ولا يخطر ببالها إطلاقًا العودة إلى وطنها الأم، إذ فترت العلاقات العاطفية معه. كل إحساسها بكيانها، وكل ما يقض مضجعها رفض البلدية بناء جامع جديد في فيشي. والموضوع أخطر مم يبدو بكثير، لأنه يعني أن الاندماج مستحيل. وستبقى بذور الإرهاب موجودة ومتكاثرة، والشبان من أصل عربي يشعرون بالغربة في وطن ليس وطنهم ولا يحسون بأنه وطنهم، ولغة ليست لغتهم، وعادات ليست عاداتهم. وصِلتهم بأوطانهم المتخلفة معدومة. ستبقى تلك الفجوة تتسع وتتسع وسيزداد الإرهاب قسوة لا حدود لها، لأن الأساس معالجة نبع الإرهاب.

ترى أيّ تفكير كان يحمل ذاك الذي ذبح الكاهنَ العجوز في فرنسا؟ ومن صوّر له بأن هذا الكاهن العجوز عدو له، مع العلم أنه تبرع بقطعة أرض للمسلمين، ليبنوا فيها جامعًا. وأخيرًا لا أنسى ما قاله لي أحد الشبان، وكان يرتاد الجامع باستمرار (وكان مريضًا يراجعني في عيادتي كل مدة، دون أن يصافحني بالطبع) ذات يوم قدمت له مجموعتي القصصية هدية؛ كي أرفع من معنوياته، إذ كان مُصابًا بداء خطير يصيب الشبان الذكور هو مرض (بهجت). رفض الكتابَ بجلافة، وقال لي إن الشيخ في الجامع قال لهم: “إياكم والقراءة.. إياكم وقراءة الكتب، فهي مفسدة للأخلاق، ويكفي قراءة السيرة النبوية مدى الحياة”. لكنني قلت له إن الرسول الكريم قال: “اطلبوا العلم ولو في الصين”، ومنذ ذلك اليوم قاطعني.




المصدر