موقع الثورة السورية من استراتيجيات السياسة الخارجية للقوى العظمى (بريطانيا)


رعد أطلي

تحاول هذه المادة أن تتناول استراتيجية السياسة الخارجية البريطانية، وانعكاساتها على الملف السوري، وذلك بعد أن تناولت المادتان السابقتان استراتيجيات السياسة الخارجية الأوروبية.

إن عدم اعتبار السياسة البريطانية أنها تندرج في نطاق السياسة الأوروبية لا يعود إلى نتائج استفتاء “البريكست” الذي أخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وإنما مكمن ذلك في تاريخ السياسة البريطانية الذي أصر دائمًا على أن بريطانيا ليست من أوروبا.

كانت بريطانيا -على مشارف نهاية النظام العالمي القديم، في الربع الأخير من القرن التاسع عشر- تشكل أكبر إمبراطورية عرفها التاريخ، وكانت زعيمة ذلك النظام العالمي بسيادة ربع سكان العالم، ومتوزعة على القارات الخمس، كما كان لموقع بريطانيا دور مهم في نظم سياساتها الخارجية، حيث إن عزلتها كجزيرة في شمال غرب أوروبا شكلت لها مناعة طبيعية تحوي على ثروة جيدة من الحديد والفحم والإنتاج الزراعي الذي مد المملكة بمواردها الأساسية، وبنظام سياسي ليبرالي هو الأعرق في العالم، ومناخ سياسي دافئ مع تطويرها ترسانة ضخمة من الحرفيين والتجار من أبناء الطبقة الوسطى. وسمحت لها تلك العزلة أيضًا بالاستغناء عن الجيوش الجرارة التي طالما أنهكت القوى الأوروبية التي أُجبِرت على إنشائها لمعارك أوروبا الداخلية إلى جانب الأساطيل من أجل مغامراتها البحرية، بينما ركزت بريطانيا على بناء أسطول قوي يؤمن ويحمي لها مصالحها الإمبريالية.

زادت رقعة مستعمرات بريطانيا، مع انطلاقة الثورة الصناعية التي وفرت لها تقدمًا تكنولوجيًا على غيرها، وفائضًا صناعيًا ضخمًا، تزامن مع تقوية الأسطول الحربي والتجاري لبريطانيا على نحو مستمر. وركزت بريطانيا، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، على أمرين اثنين في سياستها الخارجية: الأول الحماية والسيطرة على الممرات المائية التي تؤمن لها التواصل مع مستعمراتها ومصالحها الإمبريالية، والثاني ضمان التوازن في أوروبا، بما يمنع ظهور قوة أوروبية مهيمنة من خلال التحالفات مع القوى الأوروبية ضد القوة الأكبر بينهم. وتم ذلك منذ القرن السادس عشر ضد إسبانيا، ومن ثم فرنسا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ومن ثم ألمانيا بعد توحدها.

لكن في المقابل، بدأت تلك الإمبراطورية بالتخلخل والانهيار، مع بداية انهيار النظام العالمي القديم الذي شكلته، فبعد توحد ألمانيا؛ بدأت تظهر قوة بشرية ضخمة وتطور اقتصادي تظهره معدلات إنتاج الحديد، المادة الأهم للبلدين، ففي عام 1900 كان إنتاج بريطانيا يضاعف إنتاج ألمانيا، في حين ضاعف عام 1914 إنتاج ألمانيا الإنتاجَ البريطاني؛ مما دفع الأخيرة للعمل ضمن استراتيجياتها في تشكيل تحالف في أوروبا ضد ألمانيا، وضم ذلك التحالف كلًا من فرنسا وروسيا، كما جاءت الحرب العالمية الأولى التي خرجت منها بريطانيا منتصرة بنتائج كارثية على المملكة؛ فقد دمرت جيلًا كاملًا وكلفت المملكة مليون قتيل وملايين الجرحى، وأثقلتها بأعباء مادية نتيجة الحرب، وأفقدت الثقة بين القادة الوطنيين والمؤسسة الحاكمة، وأظهرت ضعف القادة العسكريين الذين اعتمدوا استراتيجيات عسكرية تقليدية. وكانت معاهدة (فرساي) للسلام بعد الحرب ضعيفة، حيث لم تستطع أن تفرض السلام الذي سعت له، بل خلقت كرامة ألمانية جريحة، تبحث عن فرصة سانحة للانتقام.

قبيل الحرب العالمية الأولى وبعدها، عانت بريطانيا داخليًا من حالة اضطراب اجتماعي، بعنوان رئيسي طبقي، وطالبت النقابات العمالية بحقوق أكثر للعاملين وتغيير النظام الطبقي المستحكم، ومع نهاية الحرب أخذ حزب العمال دور المعارضة التقليدية للمحافظين محل الحزب الليبرالي، وتتوج نضال العمال في إضرابات 1926 وما خلفته من انقسام اجتماعي، ويضاف إلى ذلك النزعة الاستقلالية للإيرلنديين التي أدت إلى ثورة مسلحة عام 1916.

تضافرت الظروف الخارجية والداخلية على بريطانيا مترافقة مع الكساد الكبير، مما ساقها لاتباع سياسة الاسترضاء، تجاه القوة الألمانية المتصاعدة بزعامة أدولف هتلر، ولم ترغب بريطانيا -التي سعت دائمًا لخلق توازن القوى الأوروبية- في دعم فرنسا ضد هتلر، وحتى عندما اجتاح الجيش الألماني عام 1936 منطقة الراين المنزوعة السلاح، حسب معاهدة (فرساي) لم تغير حكومة نيفل تشامبرلين من سياستها الاسترضائية، وأظهر اجتياح قوات هتلر لتشكوسلوفاكيا كمّية التردد الهائل الذي تعيشه القوى الأوروبية في تحالفها ضد ألمانيا، بل قاطعت الحكومة البريطانية حينها الفرنسيين، وضغطت على الحكومة التشيكية لقبول إنذار هتلر، بداية بالتنازل له عن منطقة (سودتن لاند) التي كان يسكنها 3 ملايين ألماني، قبل أن يجتاح كامل البلاد، ولم ينشأ التحالف إلا بعد اجتياح هتلر لبولندا، وبعد عدة هزائم منيت بها بريطانيا في بداية الحرب، استلم الحكومة في 1940 ونستون تشرشل رجل بريطانيا القوي.

بعد الحرب العالمية الثانية لم يرد القادة البريطانيون أن يعترفوا بتآكل الدور العالمي لبلادهم وتفكك الإمبراطورية، ولكنها استطاعت أن تتجنب مواجهات دموية مع شعوب تلك المستعمرات، كما حدث مع فرنسا في الهند الصينية والجزائر، وارتبطت السياسة الخارجية البريطانية -حسب تعبير تشرتشل- بثلاث دوائر تؤمن خطيها الاستراتيجيين بالدور الإمبريالي والتوازن مع أوروبا، وتلك الدوائر هي علاقتها الخاصة مع الولايات المتحدة، ومنظمة دول الكومنولث، والعلاقة مع أوروبا.

استطاعت الولايات المتحدة أن تصادر زعامة العالم من بريطانيا، دون أن تهدر قطرة دم واحدة، حسب ما ذكره معجبًا الزعيم البلشفي تروتسكي، وعدّ ذلك سابقة تاريخية، وترسخت زعامة الولايات المتحدة على العالم، بعد الحربين العالميتين وانطلاق الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي، ولما كانت بريطانيا تسعى لتكييف أهدافها مع قدراتها المتناقصة ومع تمكن عقدة الإمبراطورية من زعمائها، تقبلت بريطانيا بناء “علاقتها الخاصة” مع الزعامة العالمية الجديدة، وإن كان لا بد من أن تكون واشنطن روما الجديدة، سعت لندن لأن تكون مرجعيتها الإثنية، ولكن لم تحرص الولايات المتحدة على تلك العلاقة الخاصة مثلما حرصت بريطانيا عليها، وكلما توهمت بريطانيا أنها ما زالت قوية، زادت انحطاطًا، وكلما انحطت زاد وهمها بالقوة، حتى جاءت صفعة العدوان الثلاثي على مصر القوية، لتخبر بريطانيا بأنها ما عادت قادرة على التفرد بالقرار خارج عباءة واشنطن، فبعد تأميم جمال عبد الناصر القناة والاتفاق مع فرنسا و”إسرائيل” على الهجوم على مصر، في فترة نشوة ذكّرتها في عصر البلطجة الاستعماري، هاجمت بريطانيا مصرَ لتضطر، تحت ضغط موسكو وواشنطن “صاحبة العلاقة الخاصة”، لسحب قواتها من السواحل المصرية، وأيضًا كانت الحادثة الثانية عندما ألغت إدارة الرئيس كنيدي عام 1962 برنامج صواريخ (سكاي بولت) الذي كانت بريطانيا تعتمد عليه في بناء قوة ردع نووية مستقلة، لكن بريطانيا بقيت محافظة على تلك العلاقة الخاصة إلا في بعض الحالات، مثل اعتراضها على طلب إدارة ريغان إلغاء الاتفاق مع الاتحاد السوفيتي، حول مد أنابيب الغاز الروسية لغرب أوروبا، وكان ذلك في عهد مارغريت تاتشر التي أعادت بناء هيكلية اقتصادية وإدارية ومالية لبريطانيا أثرت إيجابيا على نحو كبير على البلاد، وفي عهدها بادرت لندن مرة أخرى للتصرف منفردة ضد الأرجنتين، في أزمة جزر الفوكلاند التي تبعد 400 ميل عن الأرجنتين، بعد إعلان الأخيرة سيطرتها عليها، حيث أرسلت بريطانيا قواتها البحرية مسافة 8000 ميل في المحيط الأطلسي، لتعيد السيطرة على الجزر بعد أسبوعين من المعارك، دون الالتفات إلى معارضة مجلس الأمن والمجموعة الأوروبية، لتعلن للعالم أن السياسة الخارجية البريطانية ما زالت لديها يد حديدية، ولم يكن ذلك بعيدًا عن الرغبة الأمريكية.

ظلت منظمة دول الكومنولث التي تبلورت عام 1931 بديلًا لبريطانيا عن إمبراطورتيها المفقودة، وتتألف المنظمة من 54 دولة، كانت تحت سيادة المملكة المتحدة، باستثناء راوندا وموزمبيق، وقد وفرت تلك المنظمة لبريطانيا زعامة ثقافية واقتصادية، وحتى نوعًا من الزعامة السياسية التي أهلتها لتعوض عن حاجة بريطانيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، لكنها أثرت في بعض الأحيان سلبًا على لندن، فعلى سبيل المثال، في الستينيات وفي تناوب التضخم والضمور المالي، سعت بريطانيا للإبقاء على سعر صرف الجنيه، ليس انطلاقًا من حكمة اقتصادية، وإنما من غرور إمبريالي على اعتبار أن الجنيه رمز قومي، وأن تغيير سعر الصرف سيؤثر على دول الكومنولث المرتبطة به، ولم يتم تخفيض سعره حتى عام 1967.

أما من ناحية علاقتها مع أوروبا، بقيت بريطانيا تعتبر نفسها أسمى من باقي الأوروبيين، وتختصر مقولة ونستون تشرشل تاريخ العلاقة مع أوروبا “بريطانيا في أوروبا وليست منها”، ولذلك رفضت بريطانيا، بعد الحرب، التكتل مع الأوروبيين على الرغم من مباركة تشكيل السوق الأوروبية، ولكن من باب الراعي والمشجع، وليس المشارك، مستعيضة بعلاقتها الخاصة مع واشنطن، والكومنولث، ومدفوعة بغرورها الإمبريالي، إلا أن الولايات المتحدة ضغطت باتجاه تكامل بريطانيا مع أوروبا، رغبة في إنتاج تحالف أوروبي قوي يخدم حربها الباردة ضد السوفييت، كما دخلت بريطانيا مع المجموعة الأوروبية في حلف الناتو، انطلاقًا من علاقتها الخاصة مع الولايات المتحدة.

كلما تمسكت بريطانيا بوهمها الإمبريالي قاومت الاندماج مع الأوروبيين، حيث ظلت رافضة الدخول في السوق الأوروبية المشتركة حتى عام 1961، فمع بطء بريطانيا في التكيف مع عالم سريع التحولات والركود الاقتصادي والغليان الاجتماعي، سعى رئيس الوزراء المحافظ هارولد ماكميلان للانضمام إلى السوق الأوروبية المشتركة، ولكن هذا الانضمام لقي رفضًا أوروبيًا، تتزعمه فرنسا التي كانت تسعى لتكامل أوروبي يحتوي ألمانيا، ويحافظ على زعامة فرنسية، وإن كان من الممكن تحقيق ذلك مع ألمانيا، فمن الصعب تحقيقه مع ألمانيا وبريطانيا مجتمعتين، ولم يتم الانضمام إلا بعد وفاة شارل ديغول السدّ الذي وقف في وجه بريطانيا لدخول الشراكة.

دخلت لندن السوق الأوروبي، عام 1973، وبعد مجيء تاتشر للحكم وقدرتها على إنعاش البلاد؛ عاد التكامل الأوروبي خيارًا ثانويًا بالنسبة إلى البريطانيين، فهم حسب تاتشر “ليسوا بحاجة إليه إذا لم يكن يؤمن هيمنة بريطانية في بروكسل، على حساب التضحية بجزء من السيادة”، ولم تتحمس بريطانيا للاتحاد الأوروبي ولم تدخل في منطقة اليورو، وكانت من مفارقات القدر أن تكون فترة رئاستها للاتحاد في مرحلة ترتيبات نظام النقد الأوروبي لاستخدام اليورو. وبعد الانتعاش الذي حققته بريطانيا وعودتها قوية في العقدين الأخيرين من القرن العشرين؛ فقدت شهيتها الخفيفة أصلًا للاتحاد الأوروبي، وجاء البريكست عام 2015 ليصوت للخروج منه، وأظهرت ردات أفعال كثير من مسؤولي أعضاء الاتحاد على خروج بريطانيا، بطريقة غير مباشرة، ندمهم على إهمال سياسة ديغول أوروبيًا تجاه بريطانيا.

بريطانيا اليوم في ظل تخبط اقتصادي نتيجة الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، بتحقيق مكاسب على مستوى شركات التصدير والميزان التجاري، وخسارات على مستوى تراجع سعر صرف الاسترليني وقطاع مبيعات التجزئة، ونتيجة أزمة الديمقراطية في أوروبا عمومًا، والتي تجلت بالانقسام الاجتماعي الواضح الذي أفرزه استفتاء البريكست بمعدلات متقاربة في التصويت وانقسام المجتمع البريطاني بين شرائح عمرية، حيث صوت الشباب لصالح البقاء في الاتحاد، والكهول لصالح الانفصال.

وباتت علاقة بريطانيا الخاصة بالولايات المتحدة -بالتزامن مع ضعف وتشتت أهداف دول الكومنولث- تتجه إلى “خصوصية أكثر”، لا سيما أن واشنطن لم تعترض على انفصال بريطانيا، بعد أن أصبحت مستغنية عن أوروبا قوية، بعد نهاية الحرب الباردة، وفي ظل هذه الخصوصية وتسليم مفاتيح المنطقة للأميركيين من قبل البريطانيين، تأتي نظرتها إلى الملف السوري من خلال الرؤية السياسية الأميركية، فهي تشارك بقوة في قوات التحالف ضد (داعش)، وتصرح تصريحات نارية ضد نظام الأسد، دون أن تتجاوز القرار الأميركي؛ ذلك ليس عن عجز مثل فرنسا أو ألمانيا، وإنما عن رغبة في التماهي أكثر في مفهوم العلاقة الخاصة، فهي الدائرة الوحيدة القوية المتبقية لبريطانيا، من دوائر تشرشل الثلاث.




المصدر