هل يمحو "يوتيوب" آمال الحالمين بعدالة مستقبلية في سوريا؟

إذا افترضنا سلفاً وجود حسن النية، يمكن القول إن موقع "يوتيوب" قد ظنّ أنه يفعل خيراً، فانقلب ذلك تواطؤاً لطمس حقائق ذات أهمية في تحقيق أي عدالة مستقبلية محتملة لسوريا وضحاياها.

كيف ذلك؟

في مجهود رمى إلى تطهير الموقع من الحملات الدعائية الخاصة بالجماعات المتطرفة، حذف الموقع آلاف الفيديوهات التي تبيّن لاحقاً أنه يمكن استخدامها لتوثيق الفظاعات في سوريا، الأمر الذي يهدّد إمكانية محاسبة المسؤولين عنها في المستقبل. وكانت صحيفة "نيويورك تايمز" سلطت الضوء على هذه المسألة، ناقلةً مخاوف مراقبين ومدافعين عن حقوق الإنسان جراء سياسة "التطهير" الجديدة التي اعتمدها الموقع، والتي انقلبت بشكل سلبي على المهتمين بتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، آملين باستغلالها يوماً ما في أي محاكمة دولية محتملة للمجرمين والمتورطين.

السياسة الجديدة

في الماضي، كانت الشركة تعتمد على مستخدمي الموقع، وعلى مراقبين موثوق بهم، للإبلاغ عن محتوى ينتهك قواعدها أو إرشاداتها، بعد ذلك اعتمد الموقع على إحدى الخوارزميات التي ترتّب المواد حسب أهميتها قبل اللجوء إلى مراجعة بشرية بشأنها.
حسب السياسة الجديدة، تم اعتماد تقنية تبلغ مباشرة عن المحتوى غير اللائق، وتمحوه بشكل فوري. وعليه، حُذفت خلال الأسابيع الماضية أعداد غير محددة من الفيديوهات وكذلك بعض القنوات على "يوتيوب"، وإن جرت إعادة بعض المقاطع لاحقاً بعدما نبّه منتجوها الموقعَ إلى أهمية المحافظة عليها لأغراض توثيقية. وعلى الرغم من أن معظم هذه المقاطع لا يزال يخضع لمراجعة بشرية قبل الحذف، فإن التقنية الجديدة المعروفة باسم "التعلّم الآلي"، بحسب قول متحدثة باسم الموقع، تتيح حذف مقاطع الفيديو تلقائياً، كما ترسل تحذيرات لأصحاب المحتوى المحذوف.

"يوتيوب" يرى سوريا بعين واحدة

تمّ تصميم هذا النظام لتمييز الفيديوهات التي تحمّلها الجماعات المتطرفة، لا سيما "داعش" ومن يؤيدها أو يتعاطف معها، لكن ذلك بات بمثابة تهديد لأي محتوى آت من سوريا وتحديداً من مناطق الصراع التي يتحرك فيها المتطرفون، فما يتم تحميله من هناك يصبح في دائرة الحذف "اليوتيوبية". "عندما اندلع الصراع في سوريا، لم تنجح وسائل الإعلام المستقلة بالصمود، فلجأ السوريون أنفسهم إلى يوتيوب لنقل ما يجري إلى العالم، ولكن ما حصل مع يوتيوب مؤخراً يهدد بطمس تاريخ هذه الحرب المرعبة"، علّق مدير منطمة "Airwars" (ومقرها لندن) كريس وودز لصحيفة "نيويورك تايمز". بدوره، لفت نائب رئيس مؤسسة "Benetech" كيث هيات إلى أن "هناك حوالي 200 منظمة تُعنى بحقوق الإنسان تعمل في سوريا وحدها، وقد خاطر بعض أفرادها بحياتهم، كما ضحى البعض الآخر بها، وكل ذلك لتوثيق الفظائع السورية وانتهاكات حقوق الإنسان". أما واقع الحذف الجديد للفيديوهات، فيُعتبر، حسب هيات، مخاطرة تفضي إلى خسارة "أغنى مصادر المعلومات حول انتهاك حقوق الإنسان في تلك المجتمعات المغلقة". بحسب الصحيفة، تنص إرشادات الموقع على إمكانية حذف أية قناة تنتهك قواعد الموقع خلال 3 أشهر، في حين يعمل النظام الجديد على تحليل مقاطع الفيديو المنشورة وإصدار التحذيرات بشأنها بوتيرة سريعة، مما يعد أحد أسباب إغلاق بعض القنوات دون إخطار مسبق. ويرى وودز، بناء على تجربة، أن "الفترة الزمنية التي تفصل بين إرسال التحذير للقناة وإغلاقها تماماً قصيرة للغاية". وكان 12 مقطع فيديو من قناة منظمته قد حذفت بشكل مؤقت، بالإضافة إلى حذف ما لا يقل عن 5 قنوات أخرى تابعة لجماعات المعارضة السورية ووزارة الدفاع السورية.
وبيّن وودز أن المنظمة "تلقت عدداً من الرسائل الإلكترونية المتتالية التي تفيد أن بعض مقاطع الفيديو المُؤرشفة تُمثل خرقاً لأحكام موقع يوتيوب"، مضيفاً: "تلقينا تحذيراً رسمياً يبلغنا أنه في حال حصولنا على إنذارين آخرين ستُغلق قناتنا". صحيح أن النظام الجديد قادر على تحديد محتوى مقاطع الفيديو التي تحتوي على مشاهد متطرفة مثل مقاطع أحكام الإعدام التي ينفذها "داعش"، لكنه يخطئ أحياناً في تصنيف بعض مقاطع الفيديو. وكان الموقع فد حذف مقاطع فيديو تابعة لقناة "Airwars" على "يوتيوب"، ومن بينها 3 مقاطع مصورة لهجمات جوية نشرها البنتاغون، ولا تتضمن أية مشاهد متطرفة.

كيف يؤثر ذلك على العدالة الموعودة؟

بينما تلجأ المنظمات التي تستخدم تلك الفيديوهات في عملها، إلى تحميلها وحفظ نسخات عنها وتبادلها داخلياً، فإن الصحافيين والمجموعات الصغيرة التي توثق الفيديوهات بشكل بديهي لا تمتلك تقنيات متطورة، وتعتمد على "يوتيوب" كمنصة لحفظ تلك "الوثائق". ومن ناحية أخرى، تؤثر تلك السياسة على عمل اللجنة الدولية التي شكلتها الأمم المتحدة في وقت سابق. وفي أواخر العام الماضي، ومع وجود مأزق سياسي في مجلس الأمن حال دون إحالة الملف السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية، تدخلت الجمعية العامة للأمم المتحدة لتمرير قرار يقضي بإنشاء "الآلية الدولية المحايدة والمستقلة للمساعدة في التحقيق والملاحقة القضائية للأشخاص المسؤولين عن أشد الجرائم خطورة المرتكبة في الجمهورية العربية السورية منذ آذار / مارس 2011 بموجب القانون الدولي". وكجزء من عمل هذه "الآلية"، تندرج مراقبة وجمع الفيديوهات التي توثق الجرائم المرتكبة لاستخدامها أمام المحاكم الدولية. في رأي هيات "يعتمد فريق الآلية الدولية المحايدة والمستقلة على الشبكات الاجتماعية ومصادر المعلومات المفتوحة لبناء قضيته قبل تمريرها إلى جهات الادعاء. لكن هذه المهمة أصبحت شديدة الصعوبة الآن بعد اختفاء مقاطع الفيديو عن موقع يوتيوب".
أكثر من 6 آلاف فيديو يوثق الصراع منذ العام 2014، جرى إزالتها مؤقتاً عن يوتيوب بعد إغلاق قناة "وكالة قاسيون للأنباء"، التي كان لديها عشرات المراسلين في سوريا. وتنقل الصحيفة عن مدير الوكالة طلال خراط قوله "قبل شهر تقريباً، تلقينا إنذارات استهدفت قنواتنا الإنكليزية والكردية والعربية التي كانت تمتلك أكبر عدد من متابعينا، والآن قد حُذفت كلها". ولفت خراط إلى أن أحد مقاطع الفيديو قد حُذف بدعوى "نشر العنف"، رغم أنه ببساطة كان يوثق الاشتباكات بين قوات الحكومة السورية وجماعات المعارضة. وفي حادثة مشابهة، تلقى إليوت هيغينز، وهو صحافي أنشأ الموقع الاستقصائي "Bellingcat"، تحذيراً من "يوتيوب" بشأن فيديو قام بتحميله في العام 2013، ثم تلقى تحذيراً آخر حول فيديو يظهر قتل "داعش" للصحافي الأمريكي جيمس فولي، والذي، للمناسبة، لم يعد متاحاً.

تبريرات الموقع وعقبات العدالة

حوالي 400 فيديو يتم تحميلها على "يوتيوب" في الدقيقة، من هنا، بررت المتحدثة باسم الشركة اعتماد تقنية الفلترة الحديثة التي تستهدف هذا الكم الهائل، واعدة بأنها ستتحسن مع الوقت. كما أشارت إلى ضرورة لفت انتباه إدارة الموقع إلى حذف مقطع فيديو أو قناة عن طريق الخطأ، كي يتصرف الموقع بسرعة لإعادته. كما نصحت المتحدثة المنظمات المتخوفة من السياسة الجديدة أن ترفق فيديوهاتها بمعلومات توضح سياق الأحداث وأهمية الاحتفاظ بها، وكذلك هدفها الصريح من نشر هذه الفيديوهات، وهي نصائح يقدمها الموقع لمستخدميه تحت عنوان "السياق هو الملك". في ما تقدم، يمكن العثور على مبررات منطقية عدة لما لجأ إليه "يوتيوب" من سياسة جديدة، لا سيما أن إغراق العيون بمشاهد العنف أتى ثماره لدى العديد من الجماعات التي نجحت في تطبيع الكثير من المتابعين مع العنف وجعلهم يمارسونه، وفي أحسن الأحوال يعتادونه. لكن العجز، الذي يشعر به من يحاولون سوق المسؤولين عن جرائم سوريا أمام العدالة، يجعلهم يجدون في توثيق ما يجري في سوريا من جرائم أملاً للمستقبل. وإذا تابعنا العقبات العديدة التي تحيط بهذا العمل القائم على جمع الأدلة المتعلقة بانتهاكات القانون الإنساني الدولي وانتهاكات حقوق الإنسان، ثم حفظها وتحليلها وإعداد الملفات من أجل تيسير الإجراءات الجنائية العادلة والمستقلة، وإذا أخذنا كذلك بالاعتبار حجم التضليل الذي يحيط بالحرب السورية وأهمية ما يقوم به المواطن العادي من توثيق للجرائم، تصبح خطوة "يوتيوب" الأخيرة (ما لم تجرِ معالجة "حكمها الجائر" سريعاً) عقبة أساسية أمام العدالة المستقبلية.