تحولات الموقف السعودي وتأثيره على “الثورة”


طريف الخياط

في تسريب نشرته شبكة (جيرون) الإعلامية، أكد وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، خلال لقاء جمعه بوفد الهيئة العليا للمفاوضات، أن “موسكو باتت صاحبة القرار في سورية، وأن الدول العربية الداعمة للمعارضة السورية مضطرّة للتجاوب مع الإصرار الروسي على بقاء الأسد، خلال المرحلة الانتقالية، وأقصى ما يمكن أن تقوم به هو محاولة إقناع الولايات المتحدة بألّا تقبل بترشّحه في الانتخابات المقبلة”.

لا تحمل كلمات الوزير السعودي جديدًا إلا في صراحتها، فبعد أن قرر الرئيس الأميركي دونالد ترامب وقف برنامج دعم المعارضة السورية، بات واضحًا أن الولايات المتحدة قد سلّمت مفاتيح الحل السوري إلى موسكو. تنخرط العربية السعودية، بدورها، مع إيران في صراع على النفوذ، وفي أكثر من ساحة عربية، ولا شك أن الحرب اليمنية تستأثر بحصة الأسد من الاهتمام والجهد السعوديين، باعتبار أن العبث بأمن واستقرار جارتها الجنوبية يشكل تهديدًا استراتيجيًا، خطيرًا ومباشرًا، للمملكة. لم يكن مفاجئًا إذًا، أن ينحسر اهتمام الرياض بالمعركة في سورية، منذ بدايات العام الحالي، لصالح حرب طويلة وطاحنة تخوضها في اليمن، لا سيّما أن ذلك كان قد ترافق مع إصرار روسي – إيراني، بدعم تقدم النظام الأسدي عسكريًا على الأرض، وأن الكفة باتت تميل لمصلحة المحور المعادي في تلك الساحة المعقدة والمتشابكة. اليوم، حتى لو رغبت الرياض، بتجديد دعمها للفصائل المقاتلة على الأرض السورية، فإنها بذلك تغامر مجددًا بتوتير العلاقة مع واشنطن، بعد أن بذلت جهدًا دبلوماسيًا وازنًا وحثيثًا في استعادتها لسابق دفئها، عدا عن كون الجبهة الجنوبية باتت -بحكم الأمر الواقع- مجمدةً بقرار أميركي روسي أردني مشترك؛ وبالتالي فإن الطريق لشحنات الأسلحة التي دعمت تلك الجبهة لم يعد متوفرًا عبر الأراضي الأردنية.

بالنسبة إلى الرياض، الحرب السورية هي ساحة من ساحات صراع أوسع على النفوذ في الشرق الأوسط مع إيران، وهي أيضًا ساحة شهدت تنافسًا محمومًا، بين الأتراك والسعوديين، على الزعامة السنية في المنطقة والعالم، أما بالنسبة إلى السوريين، فهي ثورة ضد نظام قمعي فاشي مستبد وفاسد، عمد خلال ما يقارب على سبع سنوات إلى تدمير المدن السورية وتهجير أهلها، ضمن خطة مدروسة وسياسة تطهير طائفي ممنهجة، للوصول إلى “مجتمع متجانس”، كما سماه رئيس سلطة الاستبداد بشار الأسد في خطابه الأخير.

تستطيع الرياض، من هذا المنظور، أن تنقل معركتها إلى رقعة جغرافية أخرى، وإن بأدوات مختلفة كالتجارة والاستثمار والدعم السخي لإعادة الإعمار ونسج علاقات وصلات مع شخصيات وتيارات سياسية بارزة، كما هو حالها اليوم في العراق، وكما هي حال علاقتها المستجدة مع الزعيم الشيعي مقتدى الصدر في ذلك البلد، دون إغفال حقيقة أن العراق بدوره ساحة مكتظة تتفاعل فيها المصالح الأميركية والتركية والإيرانية بشدة، ولن يكون الدخول السعودي على الخط موضع ترحيب، من قبل أنقرة وطهران على الأقل.

يسهل هنا على المملكة أن تتذرع بالواقعية السياسية، وتطالب المعارضة السورية، ممثلة بوفد الهيئة العليا للتفاوض، بأن تقبل بمشاركة بشار الأسد في المرحلة الانتقالية، وأن تأمل فقط بعدم ترشحه إلى الانتخابات الرئاسية بعد انقضائها، دون أن تتوفر أي ضمانات لإنهاء ما يتجاوز أربعة عقود من حكم عائلة، كانت وبالًا على سورية وشعبها.

لكن، هل يعقل أن يغيب المثال اليمني عن الرياض؟! حيث استطاع المخلوع علي عبد الله صالح، بالرغم من تجريده من صلاحياته، الاحتفاظ بما يكفي من النفوذ ليدخل البلاد في حرب أهلية لا تلوح في الأفق لها نهاية.

وهل يغدو، حينئذ، واقعيًا وأخلاقيًا أن يحتفظ الأسد بكافة صلاحياته التشريعية والتنفيذية والقضائية؟ وذلك كما أفادت وثائق سربتها شبكة (جيرون)، وأماطت أيضًا من خلالها اللثام عن تنازلات مهولة قدمها وفد الهيئة العليا للتفاوض، بما يرقى إلى خيانة الثورة السورية ومبادئها وأهدافها.

يبدو أن الحرب السورية قد بلغت منعطفًا مريرًا، بات فيه جليًا أن تضارب المصالح، بين الثورة و”أصدقائها”، سيشكل سمة المرحلة القادمة التي تجلت أولى نذرها في معركة حلب. بمعنى آخر، فإن تناقض المصالح ليس حكرًا على علاقة الثورة بالعربية السعودية، بل ينسحب أيضًا على المحور التركي، حين غضت، في وقت سابق، تركيا أردوغان الطرفَ عن استعادة النظام الأسدي لما كان يعرف بالعاصمة الاقتصادية لسورية، وذلك في مقابل احتفاظ أنقرة بجيب صغير في الريف الحلبي الشمالي، ليس بهدف دعم الثورة السورية، وإنما لمنع وحدات حماية الشعب الكردية من وصل مناطق سيطرتها جغرافيًا؛ فهل ينتظر إدلب مصير مشابه بعد أن أحكمت “هيئة تحرير الشام” قبضتها عليها؟ وهل تملك المعارضة فرصة في تحرير دير الزور من (داعش)، ووقف تقدم النظام نحوها؟

ما يثير الريبة أيضًا، أن تطورات غير مسبوقة في العلاقات التركية – الإيرانية حملتها زيارة رئيس أركان الجيش الإيراني إلى أنقرة، وأضافت بعدًا عسكريًا، لم يكن متوفرًا، إلى العلاقات بين الطرفين، تطرح الكثير من التساؤلات عما يمكن أن يحمله أو يكشفه المستقبل من تفاهمات بين أنقرة وطهران في سورية والعراق، خصوصًا أن لكليهما مواقف متطابقة في ما يتعلق بالملف الكردي وغيره في المنطقة، وإن كان بعض الرأي يذهب إلى أن استمرار التنافس الجيوسياسي والخلافات في ملفات أخرى بين الطرفين، قد يقلل من فرص حدوث تحولات دراماتيكية في العلاقات بينهما.

بالرجوع إلى كلمات الوزير السعودي؛ فإنها لا تعترف بنفوذ لروسيا فقط في سورية، إذ يبدو أن الرياض -إلى جانب واشنطن وأنقرة- باتت تُقرّ ضمنيًا بنفوذ إيران في هذا البلد المُدمّر والمنهك، حتى إنه لم يرد –في الوثائق التي سربتها (جيرون)- أي ذكر لانسحاب الميليشيات الأجنبية المدعومة من الحرس الثوري الإيراني، وكذلك الأمر بالنسبة لميليشيات (حزب الله) اللبناني. لا يعني ذلك أن معركة احتواء تأثير طهران المزعزع للاستقرار في المنطقة قد حسمت، لكنها معركة متعددة الساحات، طويلة الأمد وبأدوات متنوعة، قد لا تكون كفيلة بإحداث التغيير المرتجى للحد من تغول إيران في سورية في المدى المنظور، أو على الأقل هكذا تفيد المؤشرات إلى أن يتم حسم المعركة عسكريًا مع (داعش)، و(هيئة تحرير الشام).

يدخل اليوم الصراع في سورية وعليها مرحلةً جديدة، قد تكون المعارضة السورية فيها عرضة لانقسامات جديدة وعمليات إعادة هيكلة، وقد يجري العمل على الترويج لشخوص تقبل بخيانة الثورة السورية، والعودة إلى ما يسميه نظام الاستبداد بـ “حضن الوطن”، كما سيكون مستقبل المناطق التي تسيطر عليها (قوات سورية الديمقراطية/ وحدات حماية الشعب) الكردية واستمرار القواعد الأميركية فيها، حاضرًا بقوة ومفتوحًا على احتمالات متعددة.

وعلى صعيد المنطقة، ينذر القادم باستمرار حال من الفوضى، قد تبدو أقل عنفًا لكن ليس أقل اضطرابًا وخطورة، ستستمر فيها التدخلات الدولية والإقليمية، وستبقي تفاعلاتها الأوضاع منفتحة على نزاعات مسلحة، قد يحافظ فيها الإرهاب على موطئ قدم، في هلال تعبث به الأصابع الإيرانية، ويمتد من العراق إلى لبنان مرورًا بسورية، إضافة إلى اليمن في جنوبي شبه الجزيرة العربية، وهي فوضى ستبقي برميل البارود الشرق الأوسطي متوترًا وساخنًا.




المصدر