شَغَف


شيخة حليوى

– الطلبيّة رقم C345 ما زالت تحتاج إلى بعض التشطيبات، أحتاج ليلة واحدة فقط وسأنتهي منها، أرجوكَ.

راح ينقلُ عينيه بينها والزّبون الجالس في أقصى الغرفة. مهارتها في العمل وسعيها نحو الكمال صارا سببًا في تأخّر بعض الطلبيات، وتذمّر الزبائن الذين تتوقّف حياتهم فعليّا مع ساقيْن مبتورتيْن، وتظلّ معلّقة في انتظارِ أطرافٍ صناعيّة مناسبة.

مال نحوها وهمس لها:

– لا لا، أرجوكِ أنتِ. الزّبون ينتظرُ منذ شهرٍ ولن أسمح بالتأخير هذه المرّة. وهذا غير قابل للنقاش.

استسلمت لقرار مدير المصنع.

في زاويتها، في قسم تجهيز الطلبيّات للتسليم، وجدت رسالة قصيرة تطلُّ من بين كومة من الأطراف المُبعثرة:

“لقد استبدلتُ راقصك الرّاحل بآخر، أعتقد أنه يناسب عرضكِ أكثر. جرّبيه (الطلبيّة رقم C143 ، على الرفّ رقم 16). أرجو أن يرضيكِ أداؤهُ.

محبّتي”.

رسالة قصيرة كانت كافية كي تربكها. هناكَ من يعرفُ سرّها، وربّما يعرفُ أكثر منها وأكثر ممّا يَجِبُ؛ لدرجة أن يجدَ بديلًا مناسبًا لراقص عوّلت عليه كثيرًا. هل يعني هذا أنّه يعرفُ -أيضًا- حيرتها دون أن تصرّح بها؟

كانت متردّدة بشأن الراقص الأخير، ولكنّها لم تفكّر باستبدالهِ لضيق الوقت. العرض بعد أسبوعين، والطلبيّات كلّها ستتوزّع على الزبائن خلال الأسبوع. أجّلت كل أسئلتها، فلا وقت لديها الآن لتنشغل بشريكِ فرضَ نفسهُ عليها، لا وقت ما دام العرض هو مشروعها الأهمّ.

في السادسة مساء، غادر كلُّ العمّال المصنع، آخرهم كان الشاب الأصم المسؤول عن قسم التسليم، أحكمَ إغلاق كل الأبواب وغادر هو أيضًا. بعد ساعةٍ كانت تتسلّل إلى المصنع، كعادتها منذ شهرين، من الباب الخلفيّ بمفتاح نسخته خلسة من الشّاب الأصمّ.

– هيّا أيها الكسالى، لا وقت للنوم، هناك راقص جديد سينضم إلينا بتوصية من صديق مجهول. أرجو أن يكون أهلا للرقص معكم.

أنزلت الصّندوق رقم C143 وأخرجت راقصها الجديد. ألقت نظرة على التفاصيل المرفقة وهزّت رأسها برضا.

دعنا نرَ إمكانياتك في الرّقص أيّها التلميذ.

أدارت قرص الموسيقا، اصطفَّ المشاركون كلّ في مكانهِ المتفق عليهِ، ودونَ تدخّل منها، تقدّمَ الراقصُ الجديد ووقف في مكانه بينَ المشاركين. أعطت إشارة البداية ووقفت تراقبهم من زاوية الغرفة. تسارعت نبضاتها وهي ترى لأوّل مرّة من شهرين عرضًا راقصًا متكاملًا ومدهًشا، وكأنّ المشارك الجديدَ بثّ فيهم روحًا جديدة، نشطة وحرّة. أيّ حركات متناسقة، أيّ خفّة هذه وأيّ دقّة في الانتقال السلس السريع على أنغام الموسيقا!

فكّت ساقيها واحتضنتهما. جلست على بقايا أطرافها، وبكت كما لم تبكِ منذ سنواتٍ. “ماذا تقولان أيّتها الساقان؟ هل تفخران بما تحملانِ من جسدٍ ورأسٍ؟ ألم يكنْ كلّ ذاك العناء مُجديًا؟ أن تحملا وجعي وحقدي واحتقاري لكما. كيف كان يمكن أن أحبّكما وأنتما ندبة بشعة في الفراغ؟ أعرف أنّي قد آلمتكما كثيرًا، خلال السنوات الماضية، أعرف كم مرّة وددتما القفز من النافذة وتركي وحيدة بائسة. ماذا تقولان الآن؟ حان الوقت كي نتصالح على رقصة “العنقاء”.

في الصّباح، وبساقين ودودتيْن، كان عليها أن تتركَ في صندوق البريد عشرين دعوة موقّعة من جمعيّة وهميّة.

– عزيزي/ عزيزتي صاحب الساقيْن الجديدتيْن

ندعوك لحفل استقبالك عضوًا في نادي “الخطوة الأولى”.

لن تكون هناك كلمات مسؤولين أو خطابات مكرّرة. سنضحك ونمشي ونغنّي، ونتابع عرضا فنيّا وقد نرقص أيضًا، مَن يدري!.

نحبّكم.

نادي “الخطوة الأولى”.

ستصل الدعوة إلى عناوين أصحابها، سيرميها البعض من نافذته، وسيلبّي آخرون الدعوة. سيصلون إلى الحديقة حيث يُقام احتفالٌ بتدشينها.

توزّعوا على الكراسي الشّاغرة، وهي تتابع من زاويتها البعيدة عيونهم الحائرة وملامحهم البائسة. قبل أن يتجمّع الحضور لسماع كلمات الترحيب أدارت قرص الموسيقا الّتي غطّت على جميع الأصوات الأخرى، فشدّت الآذان والوجوه نحو وسط الحديقة.

تململت السيقان تحت الأجساد، ثمّ نهضت بأصحابها المندهشين نحو الساحة.

انتظموا جميعًا كلّ في مكانه، وراحت الأطرافُ ترقص بخفّة ونشاط، تحرّك مع كل نغمة أجسادًا لحميّة شبه ميّتة، وتسري فيها الحياة كتدفق الماء في صحراء قديمة، انسابت بقيّة الأعضاء وتشابكت الأيدي وضحكت العيون.

انتهى العرض بتصفيق حادّ وانحناءة امتنان لجنديّ مجهول.

لم تنقطع الرسائل القصيرة، بين أكوام الأطراف الجامدة:

” كان عرضا مذهلًا، أفخر بكِ”.

“أعرف، لقد رأيت ذلك في عينيكَ. كُنتَ هناك”.

” كُنتُ، وكنتُ سعيدًا برقصة “العنقاء”، وبكِ”.

“ما رأيكَ بـ ” شغف” عنوانا لعرضنا القادم”؟

“عرضنا؟ تعالي نفكّر معًا غدًا صباحًا. أعرف كيف تحبين القهوة”.

“وأعرفُ كيفَ تسمعُ الموسيقا”.

كانت الرسالة الأخيرة.




المصدر