فهرسة الخديعة باستخدام اسم فلسطين


مصطفى الولي

كانت أُمنية عدد كبير من المهتمين بالشأن العربي، وتحديدًا الشأن السوري بعد الثورة، أن يشكل سير الأحداث المأسوية التي فجرها بطش النظام بثورة السوريين من أجل الحرية، فرصةً ليقوم عدد من الكتاب والأدباء بمراجعة نظراتهم ومواقفهم، وإعادة جدولة الوقائع وتحديد الأسباب التي أنتجت الكوارث، بما يعيد لهم مكانتهم كجزء من النخبة في المجتمعات العربية، بعد أن راجعت خطأها وصوبت أفكارها ومواقفها، ومن بين هؤلاء علي أحمد إسبر الذي اختار لنفسه اسم “أدونيس”.

بالضد تمامًا أوغل هؤلاء، وفي “طليعتهم” أدونيس، في تحريف الوقائع وقلب الرواية للأحداث، وإلقاء المسؤولية فيها على الضحية والتستر على الجلاد، بل محاباته. ذلك هو ما أعاد أدونيس الإقدام عليه، في مقال له في جريدة (الحياة) 27 تموز/ يوليو 2017، تحت عنوان: “مقدمة لفهرس سياسي آخر..”.

عند مطالعة هذا الفهرس، يجد القارئ أن أدونيس “يهدّ الجبال” على رأس ثورات الربيع العربي، وهذه المرة ليس لأنها في سورية انطلقت من المساجد، بل لأنها جعلت كل حالة العرب وبلادهم وثرواتهم ومكانتهم وصورتهم وتاريخهم في الحضيض!

الجديد واللافت، في سلاح أدونيس “النقدي التعبوي” الذي ثبتَه في فهرسه الآخر، محاولة تأليب الفلسطينيين، والعرب الذين يعدّون فلسطين قضيتهم الأهم، على الربيع العربي، عندما أحال تدهور القضية الفلسطينية، وتأخر مسيرة نضالها، وتهديمها “الذاتي”، إلى مسؤولية ربيع الشعوب العربية.

كتب أدونيس حرفيًا، في مقاله، حول هذه النقطة: (سادسًا: أكدت ثورات الربيع العربي، أنها تهديم ذاتي (…) يتمثل هذا التهديم الذاتي، وهذه التبعية، في مصير القضية الكبرى والرمز الأكبر: فلسطين، فقد همِشت هنا، وأهملت هناك، وألغيت هنالك).

ليته قدَم للقارئ الحيثيات التي تدعم طرحه بمسؤولية الربيع العربي عن حالة الفلسطينيين، أو من حقنا أن نوصّف ما جاء به، بهذا الخصوص، بمقامرة ومغامرة جديدة في نمط الطرح ومآلات التفكير عنده.

يعرف أدونيس -ولو أنه يتجاهل- أن الفشل الذي مُنيت وتمنى به القضية الفلسطينية، ونضال شعبها، يعود -في أحد أهم مصادره- إلى تسوّد أنظمة القمع والاستبداد في البلاد العربية، ونموذج نظام السلطة الفاشية الطائفية في سورية يعدُ من أشد الأنظمة سوءًا وخطرًا على قضية فلسطين. ليس فقط لأنه -ومثله بقية الأنظمة- احتجز ويحتجز طاقات البلاد وإرادة الشعوب، لتبديدها بعيدًا عن مصالح “الأوطان”، إنما أيضًا -وهذه النقطة يفترض أن أدونيس يفهمها جيدًا- لأن الاستبداد، بوجوده في الجغرافيا المحيطة بفلسطين خاصة، يدعم المقولة “السحرية” للصهيونية في علاقتها مع الوعي الغربي وحتى العالمي، التي تنص على أن: (إسرائيل هي واحة الديمقراطية في صحراء التخلف والاستبداد العربيين). ومن يحرص على حل تاريخي لحقوق الفلسطينيين، عليه أن يعمل على تفكيك وكشف أهداف الدعاية الصهيونية، ذات البناء الزائف تاريخيًا، وليس مساعدة هذا الزيف على الظهور بمظهر الحقيقة، ذلك ما تقدمه أنظمة الاستبداد والطغيان، ببقائها واستمرار توحشها، للصهيونية ومشروعها العنصري الذي بدأت تجسيده بإقامة “دولة إسرائيل”.

نعم، في الظروف التي تداعت إليها مسارات الربيع العربي، خاصة في سورية، تأثيرات خطيرة على الشعب السوري أولًا، وعلى القضية الفلسطينية ثانيًا، لكن أين أصل الرواية، ومن أين ابتدأ التداعي المدمِّر للبلاد والحياة والمجتمع والعمران والاقتصاد، وكافة مقدرات سورية؟ نعم، من أين بدأ يا أدونيس؟ هل نسيت أن خمسين عامًا من “اللاربيع العربي”، أنفقتها الأنظمة في تخريب البلاد والاستسلام لـ “إسرائيل”.

فريتك – ذريعتك، في عدم تأييد الحرية، لأن التظاهرات انطلقت من المساجد، هي انحياز عن قرار ووعي مسبق لنظام الاستبداد ضد حرية الشعب. وذلك أفضل هدية لـ “إسرائيل” وأخطر تهديد لفلسطين وحركة شعبها، ولعلك تعرف أن نظام الطغمة الطائفية في سورية هو من غازل “إسرائيل” لتسانده ضد ثورة الحرية، وتعلم -كما يعلم الجميع- أن الاستراتيجيين الإسرائيليين جاهروا بموقفهم: أن بقاء بشار الأسد هو الخيار الأفضل لـ “إسرائيل”.

أما إن أردت، في مقولتك “الفهرستية” عن فلسطين، تحميلَ انتفاضات الشعوب، في تونس ومصر وليبيا وسورية واليمن، مسؤولية مراوحة الحلول المطروحة للقضية الفلسطينية في مكانها، وجمود الاهتمامات الدولية به، على كاهل ثورات الربيع العربي، فمن حقنا أن نسأل: هل كان مبارك والقذافي وبن علي وبشار يضعون فلسطين في مكان أساسي ببرامجهم وسياساتهم؟ من يقرأ “فهرسك”، وما قذفت به من عبارات حول تراجع فلسطين من جرّاء حضور الربيع العربي، فسيفهم منه انحيازك للاستبداد، لكن هذه المرة بارتداء “ثوب القضية الكبرى ورمزيتها”؛ لتظهر كم أنت مُحبّ لفلسطين، حتى تنال من إرادة الشعوب العربية بالحرية وتدعم الاستبداد.

واقعيًا، وكما هو معروف، لم تكن القضية الفلسطينية في أفضل حال سنة 2011، مع انطلاق الثورات العربية، لا في مسارات التفاوض، ولا في بناء القوى لخوض الصراع ضد “إسرائيل”. ألم يذبح الإسرائيليون غزة ويدمروها مرتين، على مرأى ومسمع أنظمتك العزيزة عليك؟ وقبل انطلاق الربيع العربي؟ ولماذا تتجاهل أن قتل الإسرائيليين للفلسطينيين في غزة والضفة هو أقل وحشية وهمجية من قتل بشار لهم في اليرموك ودرعا وحماة وحلب! ماذا تسمي هذا القتل المتوحش؟ أين هو في مقدمة فهرسك المقترح، وأين هو من “التدمير الذاتي للقضية الفلسطينية”؟ أم أن “رسالتك المتكررة” للعالم الغربي، حول الحرية وحقوق الإنسان والتمدن والتحديث، لا تأخذها على محمل الجد، بل تعلنها للوصول إلى جائزة نوبل!

ما سقتَه، يا أدونيس، من أفكار في فهرسك، عن الدمار والتدمير الذاتي الذي صنعه الربيع العربي، هو ذاته ما ساقه معك وقبلك عتاةٌ من جوقة الانتهازيين العرب، من مريدي أنظمة القتل والتوحش. أما زجُّك لفلسطين، وجعل الربيع العربي “خصمًا لها ومدمرًا لحاضرها ومستقبلها”، فهو القناع ذاته الذي استخدمه الطاغية وطغمته للتعبئة ضد الحرية التي خرج الشعب السوري للفوز بها.

ثمَ منذ متى كانت فلسطين “ديدن شعرك ونثرك وفكرك”، أتذكر كيف حاولتَ النيل من “شعرية درويش” بالغمز من “ذكائه وشطارته” في استخدام القضية الفلسطينية، ليبرز من خلالها ويكتسح الساحة الشعرية، وفي ذلك افتراء على درويش، يخفي “حسدك وغيرتك”، ويكفي للرد عليه تكرار تصريحاته حول قصيدة (سجل أنا عربي)، ورفضه لتأطيره ضمن حدودها، فهو قالها ضد “الأسرلة” في الخمسينيات والستينيات، وبقي مع فلسطين تكبر به شاعرًا لا يُتاجر بمواقفه، ويكبر معها بشعره لا بتواطئه مع الطغاة والتدليس عليهم. أما أنت، فمضيت -في آخر أيامك- للتزين والتستر بفلسطين وقضية شعبها، في فهرسك، وقبله في “كونشيرتو القدس″، لتقول إنك مع فلسطين “ودمك محروق” عليها.

الكونشيرتو الفلسطيني سبقك كثيرًا وبأصالة، فهو كونشيرتو يعلن الاندماج بأفق الربيع العربي، ذلك ما جاءت به حيفا في تضامنها مع حرية السوريين، وكذلك الناصرة والقدس ورام الله وسواهم، ولا تنسَ فلسطينيي سورية وما قدموه للحرية في سورية، وما دفعوه من حياتهم ودمائهم ثمنا لتأكيد انتمائهم للحرية وفلسطين.

أدونيس، ليتك تسحب فلسطين من فهرسك؛ فقضيتها لا تحتمل المزيد من الامتهان والاستخدام والتوظيف. أعرف أنك لم تفعل ولن تفعل، ذلك شأنك. ما يحتاجه الإنسان العربي من مثقفيه ونخبه “فهرست جديد لأخلاقيات الإنسان والحرية ومقاومة كل استبداد”، عندها تكون فلسطين حاضرة في روح الفهرس، حتى دون ذكر اسمها.




المصدر