للتنازل حدود


باسل العودات

يجري حديث متواتر وكثيف، بين أطراف المعارضة السورية، حول إمكانية تخلّي بعضهم عن شرط عدم بقاء رئيس النظام السوري بشار الأسد في السلطة، أثناء المرحلة الانتقالية، وربما بعدها! ويبرز تيار متشدد لا يقبل بهذه الفكرة بالمطلق، وتيارٌ رَخو هلامي لا يراها فكرةً نكرة ودونيّة.

لا شك أن الاعتدال، وتحمّل المسؤولية، والنظر إلى الأمور بموضوعية ومنطقية، أمورٌ مطلوبة من جميع السوريين، خاصة في ظروف ذوبان الدولة والحاضر، ومواجهة مستقبل قاتم، في ظل “احتلالات”، واقتسامات، وانقسامات، في بلدٍ بات مُدمّرًا على أكثر من صعيد، فضلًا عن ملايين النازحين واللاجئين الذين يحتاجون إلى مَن يأخذ بأيديهم وينقذهم من بؤسهم وشقائهم، وملايين آخرين من اللاجئين في أصقاع الأرض، ممن توشك سورية أن تخسرهم نهائيًا.

لكن الاعتدال والمسؤولية والمنطق لا تعني التنازل عن الحق، ولا تعني أن يقول السوريون “عفا الله عما مضى”، وبالطبع لا تعني أن تنتهي الأمور بـ “تبويس الشوارب”، والعودة إلى القبول بحكم شمولي تمييزي أمني. يخطئ كثيرًا مَن يعتقد أن عليه قبول الفُتات، تفاديًا لانهيار البلد، أو قبول استمرار النظام، تفاديًا لحروبٍ أطول وأعرض.

لا يعني الاعتدال والمنطق القبولَ ببقاء من أمَر بقتل مئات ألوف البشر، ولا ببقاء من استخدم كل الأسلحة الشريرة العمياء ضد مَن طالب يومًا بحقوقه، ولا تعني القبول ببقاء حذاء رجل الأمن فوق رقاب العباد، ولا بقاء عصاه مُسلّطة على رؤوسهم، ولا بقاء فوّهة مسدّسه موجّهة نحو أفواههم، ولا تعني أبدًا أن يبقى المجرم طليقًا، يهدد ويتوعد بالمزيد.

لا يعني الاعتدال والمنطق -في أي حال من الأحوال- القبولَ بأن تستمر عملية نهب الثروات بيد جماعة صغيرة، وأن يستمر التمييز الطائفي، وأن يستمر في الحكم مَن أثار كلّ النعرات الدينية والقومية والعشائرية، وأيقظ نوائر الطائفية بأقبح وأفظع أشكالها.

لا يعني الاعتدال والمنطق القبولَ ببقاء مَن غيّر ديموغرافية المدن السورية وشوّه وجهها، ومَن أباح البلدَ لإيران وروسيا، ولصغارهما من “حزب الله” والإنغوشيين والمرتزقة العراقيين، ووطّنهم، وأجلسهم في صدر الدار، وأخذ يمنح الامتيازات ليجلب مناصرة مجرمي الأرض.

كما لا يعني الاعتدال والمنطق القبولَ باستمرار من ارتكب المجازر، بالعشرات، ولا يعني التخلي عن العدالة الانتقالية لمحاسبة كلّ مجرم حرب، وكل سفّاح قتل طفلًا سوريًا بريئًا.

تغيير النظام هو الحد الأدنى الممكن قبوله، وعدم القبول بأي دور لكل منظومة الحكم في سورية هو الحد الأدنى أيضًا، ومحاكمة مجرمي الحرب من كل الأطراف، وعدم إشراكهم بالتخطيط لمستقبل سورية هي الجزء المُكمّل للحد الأدنى، ولا علاقة للاعتدال والتشدد بهذه المطالب، ومن يتنازل عن أيّ منها؛ فقد تنازل عن كل شيء، وساهم بدوره في ترسيخ الإجرام والطائفية والتمييز، وشارك في هدر الكرامة وإهانة الإنسانية، وساهم في استمرار “المجتمع المُنسجم” الذي وصلت إليه سورية، وصار جزءًا من نظام “البراميل” الذي دمّر حاضر سورية ومستقبلها.

عمليًا، هناك هوامش واسعة للتفاوض، وهناك هوامش كثيرة للمهادنة والاعتدال والتنازل، وهناك أفق رحب لـ “اللعب” في ميدان السياسة، لكن ليس من بينها التنازلُ عن تغيير النظام الأمني، وبناء نظام جديد، يحترم سورية ويستحق تمثيلها، ويحترم الإنسان ويحميه ويدافع عنه، ويحترم “المجتمع المتنوع”، ويعمل من أجله، ويُمهد الطريق، بترميم ما يمكن ترميمه، لبناء الدولة المحترمة التي يريدها السوريون.




المصدر