إذا ما مرَّ عامٌ


إبراهيم صموئيل

لا ترد إلى ذاكرتي، في 30 آب كلّ عام، ذكرى رحيل روائينا العظيم نجيب محفوظ منفردة، بل يصاحبها مقالُ جمال الغيطاني الافتتاحي، في “أخبار الأدب”، بمناسبة انصرام العام الأول على الرحيل.

في ذلك المقال، لم يفرش الغيطاني -وهو أحد أبرز أصدقاء محفوظ المقرَّبين جدًا- ما تحتشد به ذاكرته من وقائع وأحوال وأحاديث وطرائف وغيرها، مما شهدها وتبادلها، خلال صحبته المديدة مع محفوظ؛ وإنما أبدى أساه العميق من “افتقاد الحياة الثقافيّة في مصر، لآليات التذكّر نتيجة غياب الرؤية عن الذين يخطّطون لها”، وعبَّر عن استغرابه الشديد لغلبة الإهمال والبلادة على الحياة الثقافية، وكذلك العامة، ولمّا يمضِ على الغياب سوى عام واحد فقط!

لا أبالغ لو قلت إن الأسى الذي شعرتُ به من الحال المتردّية، والواقع البائس المقارب للخيال الذي عبَّر عنهما المقال، كان موازيًا في الأثر لخبر رحيل كاتبنا؛ ذلك أن نسيان البلاد لمبدعها رحيل آخر له. رحيل، تُضاف مرارته الحارقة إلى القلب والعقل، إلى مرارة رحيله الأوّل، أو لعلها تزيد.

وأقول: تزيد؛ لأنَّ النسيان والتناسي والإهمال واللامبالاة، من البلدان ومؤسساتها، للمبدعين الحقيقيين فيها -ناهيك عن إقصائهم ومحاصرتهم- هو ترحيل إراديّ من الأحياء لجهود أولئك المبدعين وعطائهم ودورهم التثقيفيّ التنويريّ، من شأنه مضاعفة فاجعة رحيل أجسادهم، وهو من أُسّ الحياة وأقدارها.

وأقول: تزيد؛ لأنّ من المُستغرب، بل المُستهجن، أن تحرص الحياة الثقافيّة العربيّة، بأفرادها وهيئاتها ومؤسّساتها، على تذكّر ميلاد أو رحيل موباسان وتشيخوف وهمنغواي وغابرييل ماركيز -مثلًا- والتذكير بسيرة حيواتهم وأعمالهم، كما لو كان واجبًا مقدّسًا، عليهم القيام بطقوسه (إذ من دون القيام بذلك، قد تنتفي صفة الثقافة عن المثقَّف، وصفة المتابعة عن وسائل الإعلام!)، في حين يمكن نسيان المبدعين العرب، أو تناسيهم وتجاهلهم، سوى من خبرٍ قصيرٍ أو مقال عابر لرفع العتب، على غرار ما حدث في الذكرى الأولى لرحيل محفوظ.

بالطبع، لم أقم -آنذاك- بإحصاء ما كُتب، وما لم يُكتب في مصر، وما جرى من نشاط لذكرى رحيل محفوظ، أم ما لم يجرِ، وما عمَّ من إهمال وكسل ولا مبالاة، أم لم يعمّ؛ بيد أنني -العربيَّ- أعلم وأعاين، كأيّ متابع، حجمَ الإجحاف والإهمال، بل التَّهميش المُتعمَّد المقصود من القائمين على المؤسسات والهيئات والدوائر للثقافة والمثقّفين المبدعين. بل أعرف -أبعد من ذلك- درجة الكراهية والعداء التي يكنّها رجال السلطات الاستبداديّة للثقافة والمثقَّفين، كما الحال في سوريّة مثلًا.

ولعل من المفارقات السوداء، أن يُخالط حزني يوم رحل روائينا جمال الغيطاني -في 18 تشرين الأول 2015- تساؤلٌ أسود أيضًا، عمّا إذا كنّا سنقرأ -بعد عامٍ- مقالًا يُبدي فيه كاتبُه أساه من “افتقاد الحياة الثقافيّة في مصر لآليَّات التذكّر، نتيجة غياب الرؤية عن الذين يخطّطون لها”، ويُعبّر عن استغرابه الشديد لغلبة الإهمال والبلادة على الحياة الثقافية، وكذلك العامة، ولمّا يمضِ على غياب الغيطاني -هذه المرَّة- سوى عام واحد فقط!

لا أدري إنْ كان كتب أحدٌ ذلك أم لا؛ بيد أنّ حالًا من الشعور بالأسى والامتعاض والشكوى، وكذلك قَدْرًا من الشعور بالعبث أو اللاجدوى -يقلُّ أو يكثُر- لا بدَّ أنه يكمن في أعماق الكتَّاب العرب عمومًا، ولا بدَّ أن القلق راودهم، وهم يرون إلى الحال التي عَبَّر عنها الغيطاني، إزاء مرور الذكرى الأولى -ناهيك عن الذكرى العاشرة أو الخمسين- لرحيل قامة، أسَّست وأثرت وعلَّمت كنجيب محفوظ، فما بالنا بحال مبدعين آخرين غيره؟

ورغم ذلك، رغم كلّ ذلك، فمن الهبات الكبرى للحياة أن ثمَّة بيننا مَنْ ما زال يكتب ويبدع، أكان يُراوده ما راود الكتَّاب العرب من قبله، أم لا.




المصدر