on
العراق واستحقاقات ما بعد هزيمة “تنظيم الدولة الإسلامية”
مركز حرمون للدراسات المعاصرة
المحتويات
المقدمة
أولًا: العراق يدخل مرحلة جديدة
الحراك السياسي (السنّي) الحراك السياسي (الشيعي) الحراك الكردي استحقاق معركة تلعفر ودلالاتها السياسية استحقاق (الحشد الشعبي) وخطره على مستقبل العراقثانيًا: توجّهات الدول الإقليمية تجاه العراق
ثالثًا: خاتمة
المقدمة
لم تكن معركة الموصل التي أُعلن عن انتهائها وهزيمة (تنظيم الدولة الإسلامية- داعش) وطرده منها في 17 تموز/ يوليو 2017، بعد تسعة أشهر من القتال الضاري، مجرّد معركة كبيرة بالمعنى العسكري، بل كانت حربًا ضروسًا كلّفت آلاف الضحايا، وألـحقت دمارًا هائلًا في هذه المدينة العريقة عبر قصف طيران التحالف الدولي الذي أحالها إلى أثر بعد عين، يُذكِّر بالدمار الذي طال مدنًا كبرى في الحرب العالمية الثانية، أو الدمار الذي خلّفه القصف الهمجي الروسي لشرقي حلب في العام الماضي، من دون أن يكون هناك مبرر عسكري لهذا الاستخدام المفرط للقوة التدميرية في كلا المدينتين.
لمعركة الموصل رمزية عالية، فهي تكتسب أهميتها من البعد الاستراتيجي الكامن فيها سياسيًا وقانونيًا، ذلك أن الموصل كانت المدينة المهمة بموقعها وإمكاناتها وتاريخها، التي أعلن منها أبو بكر البغدادي، قائد تنظيم “القاعدة” في العراق، خلافته المزعومة “دولة العراق الإسلامية”، وشطب حدودًا بين دول كانت راسخة منذ (سايكس- بيكو)، وحوّل تنظيمًا عسكريًا موضعيًا، يُقاتل سلطات قائمة إلى تنظيم عابر للحدود، يريد أن يفرض نفسه في عالم الدول، ما استدعى تحالفًا دوليًا عريضًا تقوده الولايات المتحدة لإسقاط هذا المشروع.
سوف يكون لمعركة الموصل، والمعارك المُلحقة بها، لاجتثاث تنظيم (داعش) في العراق أو سورية، توابع واستحقاقات، كما أنها ستُرتّب اصطفافات من نوع جديد على المستويين الدولي والإقليمي، وكذلك على المستويات المحلية للدول المتدخلة بالصراعات الدائرة بذريعة (داعش) أو بدونها؛ فهناك من يريد أن يُراكم إنجازات ومكاسب، وهناك من يريد أن يُصدِّر نفسه بين قائمة المساهمين في محاربة (داعش) حتى لو لم يكن جزءًا من التحالف الدولي المُعلن لهذه الغاية، كما أن هناك من يريد اكتساب مشروعية محلية يفتقدها، تمامًا كأولئك الذين يسعون لأن يمحوا من سجلاتهم السوداء تساهلهم- لغاياتهم المشبوهة- في سيطرة (داعش) على الموصل وأجزاء واسعة من العراق خلال أيام، ومنحها من خلف الظهر أموالًا وعتادًا هائلًا تركه الجيش العراقي عامدًا عندما أخلى المناطق من طريق هذا التنظيم.
بهزيمة (داعش)، يقف العراق على أعتاب مرحلة جديدة، واستحقاقات جديدة. فالسياسات والآليات التي أُدير بها العراق في المرحلة السابقة برعاية إيرانية كاملة، وكانت وبالًا على شعبه، لم يعد من الممكن استمرارها، وهذه المرحلة تُرتِّب على القوى العراقية التي كانت مُتحكمة في الوضع، أن تُعيد حساباتها بما يلائم المرحلة المقبلة، وإلا فإن العراق الذي يكاد أن يتخلص من “داعش” سيكون ضحية مرة أخرى لصراعات وحروب أهلية لا تنتهي. فما الصورة الأولية للاستقطابات المتوقعة دوليًا وإقليميًا ومحليًا في المرحلة المقبلة؟ وما اللوحة الجديدة لتوضّعات القوى والأطراف العراقية في ملاقاتها لهذه المرحلة الحرجة من تاريخ العراق والمنطقة، كونها المرحلة التي يُعاد فيها رسم خريطة النفوذ والهيمنة الدولية والإقليمية على مستوى الإقليم؟
أولًا: العراق يدخل مرحلة جديدة
يواجه العراق في المرحلة الجديدة، ما بعد معركة الموصل، تحديات كبيرة، ليس من السهل على العراقيين تجاوزها حتى لو امتلكوا الإرادة لذلك، مرحلة تكتنفها تعقيدات وتشابكات وصراعات بين أطراف دولية متدخلة مباشرة أو بشكل غير مباشر، وأطراف إقليمية عديدة أضرّت بالعراق أو تضرّرت منه، إلا أن التحدي الأكبر سيبقى تحدي الانتقال من مرحلة الفوضى التي سادت منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003 وحتى الآن، إلى مرحلة استعادة الدولة القادرة والعادلة، التي تستطيع الإيفاء بالتزاماتها تجاه مواطنيها وتجاه محيطها وفي علاقاتها الدولية، وبضمان الاستقرار ووحدة العراق بعيدًا من النفوذ الإيراني أو على الأقل الحدّ منه. ونستطيع أن نتبيّن في هذه المرحلة مجموعة من السمات والاستحقاقات:
1- الحراك السياسي (السنّي)
بدأت هذه المرحلة، عمليًا، عبر حراك سياسي محموم يشغل القوى العراقية كافة. فما أن أُعلن عن تحرير الموصل حتى تنادى مئة وثماني وخمسون شخصية (سنّية)- بعضهم تصدّر المشهد السياسي منذ الغزو الأميركي، وما زال، من دون أن يقدّم للشرائح الاجتماعية التي ادّعى تمثيلها (وهم هنا السنّة) إلا الكوارث، نتيجة لخياراته السياسية الخاطئة أو لفساده- إلى تشكيل تجمّع سياسي واسع طالبوا في بيانه التأسيسي بعراق ديمقراطي يضمن مشاركة كل العراقيين في حكمه وثرواته من دون تمييز. وفي السياق ذاته، أعلنت عشائر غربي الأنبار وثيقة عهد جديدة “تدعم الجيش الوطني وعودة أبناء العشائر، وإعادة تنظيمهم وتأهيلهم ضمن الحشد العشائري، وضمان السلم الأهلي ورفض الثأر خارج القانون”، وأبرزت موقفًا واضحًا من (داعش).
2- الحراك السياسي (الشيعي)
على الجانب (الشيعي)، كان هناك حراك مشابه، لكنّه أوسع وذو دلالات أعمق، كون (الشيعية السياسية) التي تحكّمت في العراق منذ الغزو الأميركي، وشكّلت ذراعًا سياسيًا وعسكريًا للنفوذ الإيراني، تُدرك خطورة ما فعلته بحق العراق وقسم من العراقيين الذين قتلتهم وأفقرتهم، ودمرت مدنهم وهجّرتهم بذريعة تعاطفهم مع القاعدة وتفريخاتها وآخرها (داعش)، وكان الأخطر على الكيانية العراقية النهج الطائفي الذي حكمت به العراق في ظل حكم (حزب الدعوة) وحلفائه والمتواطئين معه، كما تُدرك أن المرحلة المقبلة لم تعد تحتمل هذه الحال إذا أُريد للعراق أن يبقى موحّدًا وأن يستردّ جزءًا من سيادته المهدورة.
يبدو (حزب الدعوة) الحاكم أكثر الأحزاب التي تشهد هزات عنيفة تُهدد بانشقاقات عميقة فيه، هذا الحزب الذي جعل من نفسه- مقابل تفرّده بالحكم برئاسة نوري المالكي- مطية للنفوذ والتدخل الإيراني الواسعين، وارتُكب في عهده ما ارتكب من فظائع ومفاسد وكوارث، وصل إلى مفترق حرج واستقطابات قد تودي بوحدته.
يقود نوري المالكي الجناح “المحافظ” داخل الحزب المندرج ضمن المشروع الإيراني، ويستند إلى دعم إيران وحرسها الثوري وإلى الحشد الشعبي الذي أسس لحماية وتعزيز هذا التوجه في العراق بذريعة محاربة “داعش”، وسبق أن أدين هو وثلاثون شخصية أخرى بتسهيل سيطرتها على الموصل وما رافقها، ومع ذلك ما زال يتطلّع إلى العودة للحكم، وربما كانت زيارته الأخيرة إلى موسكو تخدم هذا الغرض، وهي الزيارة التي حملت إلى الناخب العراقي، وإلى أنصاره خاصة، رسالة مفادها أنه ما زال موجودًا وقادرًا على الحركة والفعل، في حين يتحضّر رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، الذي يتململ من النفوذ الإيراني، ويميل إلى الولايات المتحدة، وهو أكثر تعاطفًا مع الأكراد، ويتوجّس من (الحشد الشعبي)، إلى الانشقاق عن (حزب الدعوة) وتشكيل حزب جديد تحت اسم (الحرية والبناء)، لكنه يبدو كمن يسير في حقل ألغام ليس مضمونًا له الخروج سالمًا منه. كذلك (المجلس الإسلامي الأعلى) الذي ترعرع في حضن إيران منذ ثورة الخميني، انشق عنه عمار الحكيم وشكل تيارًا جديدًا تحت اسم (تيار الحكمة الوطني).
الحراك الإشكالي الآخر، هو تحرك التيار الصدري ذي القاعدة الشعبية الواسعة من فقراء الشيعة في العراق، والذي يقوده رجل الدين، مقتدى الصدر، المتقلّب في مواقفه وفي مزاجه السياسي، وتتناهبه ميوله العربية مع تلك الشيعية في دوامة بحثه عن سلطة دينية أو سياسية أرفع، طالما مُنع منها، وأحيانًا بالقوة العسكرية، عندما أُجبر على حلّ (جيش المهدي) عام 2008 بعد صدامٍ دامٍ كلّف آلاف الضحايا، بقرار من نوري المالكي.
يقود مقتدى الصدر منذ عامين تظاهرات شعبية واسعة لتياره وبعض الأحزاب والتجمعات السياسية والمدنية الصغيرة، يُطالب فيها بمحاربة الفساد وتغيير هيئة الانتخابات العامة وحلّ الميليشيات وحصر السلاح بيد الدولة، كما يُكثر من حراكه المحلي والعربي، حيث زار السعودية والإمارات مؤخرًا، وهو يُضمر ولا شك رفضًا مكبوتًا للهيمنة الإيرانية. هذا التوجّه الذي يقوده الصدر وتياره، على أهميته لعروبة العراق ومستقبله الموحّد، ويجب تشجيعه، إلا أنه من غير المتوقع أن يستطيع تحقيق أهدافه المُعلنة أو غير المُعلنة في ظلّ المعطيات الراهنة، بسبب ثقل العصا الإيرانية وقوة أذرعها العسكرية والسياسية بين الشيعة العراقيين، كذلك بسبب حالة التنافس وفقدان الودّ بينه وبين مرجعية السيستاني في النجف.
3- الحراك الكردي
أما على الجانب الكردي، فقد أعلنت حكومة أربيل عن عزمها على إجراء استفتاء حول تقرير المصير في الإقليم في 25 أيلول/ سبتمبر المقبل، وهي ما زالت مُصرّة على إجرائه على الرغم من الاعتراضات المحلية والإقليمية والدولية. وتحاول رئاسة الإقليم طمأنة الداخل والخارج، بأن الاستفتاء ليس بالضرورة سوف يؤدي إلى الاستقلال، لكن غايته تأكيد حق الأكراد العراقيين بتقرير مصيرهم وفقًا للدستور الفدرالي العراقي، الذي ما زال الكثير من موادّه المتعلقة بإقليم كردستان مُعطّلة بقرار من حكومات بغداد المتعاقبة.
على المستوى الداخلي، هناك خلاف بين الأطراف الكردية في الإقليم، ليس حول الحق بالاستقلال أو رفضًا له، بل حول آليات الاستفتاء وتوقيته، فهل سيشمل مناطق الإقليم كافة بما فيها المناطق المتنازع عليها ومنها كركوك؟ وهل سيشمل جميع السكان في الإقليم أم فقط أكراده؟ لاشك في أن هناك ضغوطًا إقليمية على هذا الطرف أو ذاك، لكن الأهم، موضوعيًا، أن حكومة الإقليم لا تملك استراتيجية متكاملة لليوم التالي بعد الاستفتاء ونتيجته المضمونة بنعم، حتى وإن انخفضت النسبة عن استفتاء الـ 2005 الذي حاز على 98%، وهناك تشكيك من قبل الأطراف الداخلية بأن حكومة الإقليم تريد استخدام الاستفتاء كورقة ضغط على الحكومة العراقية، وجرّها إلى طاولة التفاوض وانتزاع مكاسب جديدة منها، كما حصل في عقب استفتاء 2005، عندما استطاعت إجبار حكومة بغداد على تفعيل بعض مواد الدستور الفدرالي المعطلة، وزيادة حصة الإقليم من الميزانية العامة وحصص النفط استثمارًا وتصديرًا.
لعل أهم محرك لهذا الحراك السياسي العراقي، يقبع في محاولة القوى العراقية ترتيب أوراقها وتحالفاتها استعدادًا للانتخابات المقبلة في الربيع المقبل، لما للتوضّع السياسي والقوى السياسية في تلك الانتخابات من أهمية وتأثير في رسم مستقبل العراق وإخراجه من هذه الحالة، وهو في الوقت ذاته يُلاقي توجهًا دوليًا وإقليميًا في الاتجاه ذاته في ظلّ سياسة الإدارة الأميركية الجديدة الساعية إلى الحد من النفوذ الإيراني في المنطقة، ومنها العراق، وكذلك التوجه السعودي للعمل في الساحة العراقية ومدّ اليد لأبناء العراق لمواجهة النفوذ الإيراني أو للتخفيف منه، بعد أن تُركت الساحة العراقية ملعبًا لإيران زمنًا طويلًا. ومن جهتها، لا تشذّ إيران عن هذه التحركات، وهي تسعى لإنضاج تحالفات وقوى جديدة تتبنى خطابًا جديدًا، يُخفّف من موجة العداء لها أو التذمر من سياساتها في الشارع العراقي، والشيعي منه على وجه الخصوص.
قد يكون من المفيد الوقوف موضوعيًا عند واحدة من الحقائق التي لعبت دورًا مهمًا في إيصال العراق إلى هذه الحالة من التردي والفساد والانقسام بعد الاحتلال الأميركي له عام 2003، وهي أن (شيعة) العراق، وقواهم السياسية، استندوا إلى فتوى المرجع الشيعي علي السيستاني التي حرّمت قتال الأميركيين، ونفت عنهم صفة الاحتلال، في حين دفعت (السنّة) لتنكّب مهمة قتال الأميركيين بتشجيع ودعم من النظامين السوري والإيراني، وإهمال بقية الدول العربية للشأن العراقي، وتجاهل ما يجري فيه عقابًا للعراقيين على احتلال الكويت أو تجنبًا للغضب الأميركي. وقد دفع (سنّة) العراق -وما زالوا- ثمنًا باهظًا لذلك الموقف، فقد تفرغ (الشيعة) للإحكام على مفاصل السلطة في العراق بدعم إيراني وتجاهل أميركي، ودُفع (السنّة) إلى مهاوي التهميش السياسي في بنية النظام العراقي الجديد، ولم يُسعفهم انخراطهم في (الصحوات) عام 2007 وهزيمتهم (تنظيم الزرقاوي) ومشروع دولته في العراق، حيث مُنع مقاتلوهم من الرعاية الحكومية أو الالتحاق بالمؤسسات العسكرية والأمنية العراقية التي بقيت بمعظمها حكرًا على (الشيعة).
الآن، وفي ظلّ المعطيات الجديدة، وبعد هزيمة (داعش)، هل تكون الانتخابات المقبلة فرصة أمام (سنة) العراق للعودة إلى المسرح السياسي العراقي الذي هُمّشوا فيه؟ ربما، لكن محاولة نخبهم السياسية، التي تصدّرت المشهد في المرحلة الماضية، للعودة وتصدّره من جديد، لا تدعو للتفاؤل بحكم تجربتهم الفاشلة وفسادهم ومساوماتهم على حساب العراق ومصالح شعبه.
4- استحقاق معركة تلعفر ودلالاتها السياسية
تُعدّ معركة تلّعفر المنتظرة، على أهميتها وصعوبتها عسكريًا، من معارك الهوامش لتصفية تنظيم “داعش” في العراق بعد هزيمته في الموصل، وتأتي أهمية تلّعفر- التي أعلنها الأجانب الذين انشقوا عن (داعش) إمارة خاصة لهم- من موقعها الإستراتيجي والتداخلات الإقليمية والمحلية المهتمة بهذه المنطقة، التي تقع في منتصف المسافة بين الموصل والحدود السورية، ويقطنها مواطنون تركمان أغلبيتهم من (الشيعة)، وهي بالنسبة إلى إيران ذات أهمية خاصة لوقوعها على الممر البري الذي تحلم وتعمل على إنجازه، ويصل طهران بالبحر الأبيض المتوسط، وتعدّ شيعية سكانها عنصرًا مطمئنًا لها، لذلك تدفع بـ “الحشد الشعبي” للمشاركة في معركة السيطرة عليها. وقد حسم حيدر العبادي بصفته قائدًا للقوات المسلحة، بضغط إيراني، الجدل حول مشاركة “الحشد” في هذه المعركة، لمصلحة مشاركته، على الرغم من اعتراض أطراف محلية وتركيا والولايات المتحدة. وبالنسبة إلى تركيا فهي عدا عن كون سكان تلّعفر من التركمان وتخشى تغييرًا ديموغرافيًا يُهجّر سنّتها، فإن لها قاعدة عسكرية مهمة في بعشيقة، وفي حال سيطرة الحشد عليها وتجيير تحريرها لمصلحة النفوذ الإيراني، فإنه سوف يُخلّ بالتوازنات القائمة، ويُخرج تركيا من العراق، التي سوف تخسر، من ثمّ، قاعدتها العسكرية هذه.
لا يُسرّ الأكراد في إقليم كردستان مشاركة (الحشد) في معركة تلّعفر، واستقراره لاحقًا فيها، لأنه سيضمن لحلفاء إيران تطويق الإقليم من الغرب، الذي يطوقونه حاليًا من الجنوب وتطوقه إيران من الشرق. أما القوى المحلية في الموصل، فإنه يُقلقها تاريخ (الحشد) والجرائم البشعة التي ارتكبها على أساس طائفي بحق المدنيين (السنّة) في مناطقهم.
5- استحقاق (الحشد الشعبي) وخطره على مستقبل العراق
يُعدّ (الحشد الشعبي) الذي أنشئ بناءً على فتوى المرجع الشيعي علي السيستاني “الجهاد الكفافي”، في عقب سيطرة (داعش) على الموصل في 10 حزيران/ يونيو 2014، واحدًا من أكبر الإشكاليات التي تُهدّد مستقبل العراق، بالقدر الذي أزَمت فيه حاضره. فقد استطاعت إيران التحكم فيه منذ تشكيله، عبر الميليشيات التي انخرطت فيه، وكانت تتبعها، كمنظمة (بدر) و(النجباء) وغيرهما، خاصة أنها تولّت مهمة تنظيمه وتدريبه وتسليحه وتوجيهه.
لا تتوقف إشكالية (الحشد) عند الفظائع والجرائم التي ارتكبها على أسس مذهبية بحق قسم من العراقيين، بل تتجسّد مشكلته بأنه بات قوة خطرة خارج إطار الدولة، لا بل قد يكون أقوى من جيشها، ويُصرّح قادته علنا، وفي مقدّمهم القائد العام لـ (الحشد)، أنه لن يتلقى أوامر الدولة، ولا يستطيع أحد، لا داخل العراق ولا خارجه، نزع سلاحه، لكن الأخطر تنطّح قادة الحشد لمهمات خارج الحدود بدعوى ملاحقة (داعش) داخل الحدود السورية وربما غيرها مستقبلًا.
يُحاول رئيس الوزراء، حيدر العبادي، ضبط (الحشد) قدر الإمكان، لكن مهمته عسيرة وخطرة، وكانت إحدى إجراءاته التي لم يُبرهن الواقع على مدى نجاعتها بعد، ضبطه تحت مسمى (هيئة الحشد الشعبي) التي تتبع القائد العام، لكنه استطاع الحدّ من مشاركته المباشرة في معركتي تحرير الرمادي والموصل، وأوكلت له نتيجة الضغوط الأميركية مهمة المشاركة في حصار وتطويق المدينتين، استجابة جزئية لمطالبة أهالي الأنبار ونينوى باستبعاده، بعد الجرائم التي ارتكبها إبان معارك الفلوجة. وليس أدلّ على صعوبة مهمة العبادي في تعامله مع (الحشد)، تحذير المرشد الإيراني، علي خامنئي، له إبان زيارته الأخيرة لطهران من خطورة المسّ بهذا التنظيم، بدعوى أن مثل هذا التوجه “يخدم الأعداء” على حدّ قوله، والأعداء هنا هم أعداء إيران، وهم كثر، ما يعني أن صدام العبادي مع (الحشد) سيضعه في صدام مع إيران وحرسها الثوري، الأمر الذي لا طاقة له به في ظلّ التوازنات القائمة. وهنا ثمة سؤال يطرح نفسه حول قدرة السيستاني على ضبط (الحشد) أو حتى حلّه ما دام هو صاحب فتواه. وليس مؤكدًا أن يخضع قادة الميليشيات، حتى للمرجعية الدينية، إذا وصلت الأمور إلى هذا الحدّ، خاصة أن السيستاني ليس على تلك الدرجة من القوة، أو حتى على صعيد امتلاكه لمثل هذا التوجه، وهو يخوض مع قمّ صراع الخلافة على مرجعيته في النجف.
يُدرك العبادي، وكثير من الساسة العراقيين، الذين يناوئون، على درجات، النفوذ الإيراني في العراق، استحالة تعايش الدولة مع ميليشيات منفلته خارج القانون، ولا بدّ أن الطرفين يسيران في اتجاه الصدام عاجلًا أم آجلًا، صدام تبدو نتيجته محسومة لمصلحة (الحشد)، ما دامت لإيران اليد الطولى في العراق، على الرغم من أن كثيرًا من المتابعين للشأن العراقي يذهبون إلى أن مستقبل العراق الأمني يتوقف على المواجه المتوقعة بين (الحشد) و(الفرقة الذهبية) في الجيش العراقي، التي درّبها الأميركيون، وباتت على درجة عالية من الانضباط والتسليح والخبرة، ولعبت دورًا حاسمًا في معركة تحرير الموصل، ذلك أنهم يُشكّكون في ولاء بقية فرق الجيش العراقي وقواه الأمنية للدولة العراقية، إذا ما وُضعت أمام اختبار من هذا النوع، ذلك أن الخرق الإيراني عميق لشتى تشكيلات هذا الجيش.
ثانيًا: توجّهات الدول الإقليمية تجاه العراق
إيران وتركيا والسعودية، ثلاث دول إقليمية تتنافس على الساحة العراقية، وتحوز إيران على النفوذ الأكبر، وهي صاحبة القرار فيه إلى حدّ كبير، نفوذ مكين بنته على مهل في ظلّ الاحتلال الأميركي، وربما بموافقته، ثم جعلت من العراق، بأبنائه وثرواته، مُنطلقًا للتدخل في بقية دول الإقليم وتوسيع نفوذها فيها، على شاكلة تدخلها في الصراع الدائر في سورية، حيث يتجاوز عديد ميليشياتها أكثر من ثمانين ألف مقاتل، ويُعدّ (الحشد الشعبي)، الذي بات يعدّ أكثر من مئة وخمسين ألفًا، ركيزتها الأساسية في العراق، لكن إيران، وبغضّ النظر عما يطلقه مسؤولوها من تصريحات تغلب عليها نبرة التحدّي والاستعداد للمواجهة، تدرك جيدًا أن الرياح التي واتتها ردحًا من الزمن تُغيًر من اتجاهها، خاصة في عهد الإدارة الأميركية الجديدة التي تقوم سياستها في المنطقة، في جزء منها، على الحدّ من النفوذ الإيراني، والتي باتت ترى أن إيران راعية للإرهاب ومصدر لعدم الاستقرار في المنطقة. وهذا يُحتّم عليها تغيير استراتيجيتها، على نحو خاص في العراق، كونه القاعدة الأرسخ في مشروعها التوسعي؛ فراحت تجدّد تحالفاتها فيه، وربما تظهر قوى جديدة ومسميات جديدة وخطاب جديد قد لا يقتصر على الجانب (الشيعي). وفي الاتجاه ذاته، تحاول إيران التخفيف من ضغطها على المرجعية في النجف لجهة خلافة السيستاني، فقد سحبت مرشحها، أية الله حائري، بحجة تردّي وضعه الصحي في رسالة واضحة للسيستاني برغبة إيران في تخيف التوتر بين مرجعتي النجف وقم، ومن ضمنها تخفيف قم من تدخلها في البعد المذهبي لدى شيعة العراق.
أما تركيا، فتبدو في حالة من الارتباك، لا تسمح لها بأن تكون ندًا رادعًا لإيران لا في العراق ولا في سورية، لأسبابها الداخلية، وتأرجح علاقتها بالأطلسي وبالولايات المتحدة خاصة، كما أن شاغلها الأساس هو منع قيام كيان كردي على حدودها الجنوبية، وعليه لا تبدو في وارد الاحتكاك بإيران حتى لو اضطرت إلى إغلاق قاعدة بعشيقة، إلا إذا أمدّتها الولايات المتحدة بالغطاء السياسي اللازم في إطار شمالي العراق الذي يهدّده (الحشد الشعبي).
إلى هذا، تُبدي السعودية اهتمامًا زائدًا بالعراق تساوقًا مع مرحلة ما بعد “داعش”، وهي تحاول استغلال تغيّر موقف الإدارة الأميركية من إيران، وطيّ صفحة في العلاقات بين البلدين حين حرمت السعودية بقرار منها من الحضور والمشاركة في إعادة رسم مستقبل العراق ما بعد غزو الـ 2003. إنها تحاول استدراك ما فاتها منذ أن قطعت العلاقات مع العراق في إثر غزو الكويت عام 1990.
أعادت السعودية العلاقات مع العراق عام 2015، إلا أن الضغوط الإيرانية لم تسمح بتطوير هذه العلاقات، ثم جاء أول اتصال بين الجانبين، السعودي والعراقي، بعد انقطاع طويل، على هامش القمة العربية في عمان بين العبادي والملك سلمان، ثم وجهت السعودية دعوة إلى العراق لحضور القمة العربية الإسلامية- الأميركية في الرياض حضرها الرئيس العراقي، بعدها جاءت أول زيارة لرئيس الوزراء العراقي في 20 يونيو/ حزيران 2017 أرست طورًا جديدًا وبنّاءً في العلاقات بين البلدين، وجرى الاتفاق على تشكيل مجلس تنسيقي أعلى للارتقاء بها إلى المستوى الإستراتيجي، كما اتُّفق على فتح المعابر البرية بين البلدين وتأمين الحدود بينهما الممتدة على 814 كم، وتسيير أربعة خطوط طيران بين كل من الرياض وجدة، وبين كل من بغداد وأربيل والبصرة والنجف.
للعراق مصلحة كبيرة في الحضور السعودي، للخروج من حالة العزلة عن محيطة التي عزّزتها سياسات المالكي الطائفية وجُيّرت لمصلحة إيران، في وقت بات فيه العراق متّهمًا بتبني سياسات طائفية وبالتبعية لإيران، ونظرًا إلى اختلاف نهج العبادي وسياساته عن المالكي، فإنه يسعى لعودة العراق إلى محيطه العربي بالقدر الذي تسمح به التوازنات الداخلية، وعلى وجه التحديد فإنه، أي العبادي، يرى أن العلاقة مع السعودية إضافة مهمة في رصيد مستقبله السياسي. أما بالنسبة إلى السعودية، وعلى الرغم من أن (الحشد الشعبي) يشكل هاجسًا لها، فإنها ترجّح، على ما يبدو، حضورها الاقتصادي والإنساني على الحضور السياسي في المرحلة الأولى، ومساعدة العراق في تعافيه وإعادة إعماره، ذلك أن العلاقة بين البلدين في بدايتها ومهدّدة بالانهيار في أي محطة؛ فهناك تباينات عميقة بينهما حول كثير من الملفات الإقليمية، فضلًا عن تدخل إيران وسعيها لتخريبها، ولن تستطيع السعودية التدخل بشكل مباشر لمصلحة (سنّة) العراق والمطالبة بمشاركتهم في حكمه، لأن الطرف الآخر سوف يطالبها بمشاركة (شيعة) السعودية في حكمها.
ثالثًا: خاتمة
قد يُبدّل تحرير الموصل وهزيمة “داعش” من أوضاع العراق الرازح تحت الهيمنة الإيرانية الثقيلة، لكن حتى يكون هذا التبدّل لمصلحة عراق مُتصالح مع نفسه بمكوناته كلها، ومالكًا زمام أموره وثرواته، فإن تحديات جمّة تواجه ساسته وقواه الوطنية، ولعل أولى الاستحقاقات هي استرداد العراق سيادته، والتملّص من النفوذ الإيراني، فالسيادة هناك باتت تتناسب طردًا مع تداعي هذا النفوذ. ومن المفيد لقادة العراق المتحمّسين لمستقبل عراق أفضل بعيدًا من سطوة إيران، أن يُمرحلوا أهدافهم، وأن يُجزّئوا معاركهم، مع الاستفادة من الهوامش التي تُتيحها السياسات الدولية، وتكثيف الحضور العربي، وإعادة المُهجّرين إلى مناطقهم وإعمارها. لكن (الحشد الشعبي)، سوف يبقى أحد أكبر العقبات التي تُهدّد مستقبل العراق، وحتى لا نكون أمام ثنائية (دولة ودويلة) ثانية على غرار لبنان، فإن السؤال الذي يُلحّ من دون إجابة ذات صدقية، يدور حول السياسة الأميركية الجديدة حيال العراق وإيران، فيما إذا كانت جادّة في تحجيم النفوذ الإيراني أو إنهائه في هذا البلد، وحول الكيفية التي ستتعامل بها مع (الحشد) بعد القضاء على (داعش)؟ هل ستستنزفه في معارك أخرى على جانبي الحدود العراقية- السورية؟ أم ستُدخله في صراعات داخلية مُسيطر عليها؟ وأيًا تكن السيناريوهات المقبلة، فإن قيامة العراق هي مهمّة العراقيين وسداد أدائهم أولًا وأخيرًا.
المصدر