الكوثر في التباس المكان والمعنى


دعد ديب

بلا مقدمات، يدخلنا الكاتب علي عطا في نصه ساحبًا القارئ إلى حميمية متواطئة، عبر قول نيكوس كازانتزاكيس “إنها لمعجزةٌ إذن هذه الحياة، كيف تمتزج بها أرواحُنا، عندما نغوص داخلنا، ونعود إلى جذورنا ونصبح شيئًا واحدًا”.

في روايته (حافة الكوثر) من إصدارات الدار المصرية – اللبنانية لعام 2017، حيث ندخل في شبكة السرد، من أول جملة تتبدى على شكل رسائل أو “إيميلات” أو “مسجات” بلغة العصر، يدخل فيها بحواريات متشعبة، مع صديقه البعيد طاهر المنفي أو المهاجر والمسكون “بدفء الوطن الذي كان”، في التباس لمعنى المكان وصعوبة التكيف مع الوطن البديل حتى للأجيال التي خلقت في المنافي، حيث الانتماء المشروخ؛ إذ صار (فيسبوك) لازمة للتواصل لا يكاد يخرج عن فضاء أي إنسان في هذا العصر، وواجهة تعكس الوجه الذي يحبذ المرء أن يقدم نفسه للآخرين، مع الرغبة بالفكاك من إدمانه، ليصبح المكان مفهومًا مجازيًا وعامًا، حيث شخصيات الرواية الحديثة ما عادت تستوطن المكان بالطريقة المعهودة، بل هي في تصارع معه.

الرسائل الإلكترونية هي خطاب نزيل الكوثر لثلاث مرات متقطعة في الدخول إلى عمق الشخصيات وتبيان مشاكلها وعقدها التي تجلت في العصاب النفسي والشخصيات المأزومة التي تقيم في الكوثر “مشفى للأمراض النفسية” ومدخل للتوغل في أزمات الفرد التي تعكس أحوال المجتمع، وهو بالوقت ذاته روائي يحاول أن يكتب نصه الخاص بشذرات يرسلها لصديقه طاهر مما يوحي بتقنية النص داخل نص، وهو -خلال إقامته- يستعرض حالات الاكتئاب النفسي التي يمر بها نزلائه التي تتوزع حالاته، فمنها ما هو انعكاس لأزمات المجتمع المحلية منها وأزمة المكان، إذ تتكاثر العشوائيات حول المدن وترتبط بالريف بشكل لا يقطع الصلة بالفهم الريفي لشكل الاقتصاد، إذ هناك من يضع ميزانًا لبائعات البيض والجبن والطيور، كما تتم تربية الدواجن على سطح الأبنية في شكلٍ لتشوه وجه المدينة وفقدان ملامحها، كما تبتلع وتختفي ملامح الريف في الوقت ذاته معممًا لأشكال الفساد وجبال القمامة ومضاربات البناء والاستيلاء على الأراضي لبناء أبراج، تقام مكان الأبنية القديمة تروح أرباحها لجيوب المتنفذين ضاربين عرض الحائط بكل الشكاوى والمناشدات المنددة بأثرها على الساكنين القدامى وتضررهم منها منوهًا كذلك بفئة الأطباء في المراكز الصحية التي تعتمد على العقاقير كوسيلة علاجية، تعكس الجشع بالأرباح المتوقعة منها وضعف الاعتماد على أساليب السايكو دراما في التشخيص والعلاج لتدني التحصيل العلمي في الطب النفسي.

اتبع الكاتب أسلوب تشظي خط السرد، ما بين الماضي والحاضر، عندما تتوغل ذاكرته لتصل إلى خاله الشهيد في حرب 1973 في مفارقة لما وصلنا إليه من حالات التطبيع مع العدو، باستهانة واضحة بالتضحيات والشهداء.

مظاهر الكآبة ليست بالضرورة مظهر الحزن البادي أو البؤس الظاهر، وإنما ذاك الفراغ الروحي الذي يشعر المرء بعدمية الحياة واللاجدوى، فتعبير صديقه (محمود عبد الحميد): “الناس اللي بتتهمني بالكآبة: أنا بضحك أهو!”.

عبارة تختزن ألمًا دفينًا ورغبة في الظهور عكس ما يبدو، كما يستعرض نموذج انتحار سعاد حسني “سندريلا الشاشة” التي كانت قبلة الأنظار، وياما أسعدت الألوف ورافقتها الأضواء لتنتهي وحيدة معزولة بالانتقال من دائرة الضوء إلى الانطفاء.

النماذج كثيرة ومتعددة للشخصيات المأزومة (سميح جركس “الشيوعي القديم” – مجدي “المتيم بعمته” – بيشوي – سامح.. وآخرين) غصت بها صفحات الرواية البالغة مئة وسبع وخمسين، تعكس تعبيراتها عن الصراع الذي يمور في أعماق البنى النفسية للأفراد، فذاك المقيد بمنظومة المرجعيات الفقهية التي تنهى وتحرم وأسئلة الفتاوى الدينية: “هل التدخين ينقض الوضوء”، معرجًا على حال المجتمع المحكوم بقوى ذات خلفيات دينية تحكم الهيمنة على وعي البسطاء، ولها انعكاساتها السياسية على المجتمع، بإشارته إلى ارتباط مفهوم السينما النظيفة بشخصيات من الإخوان ولا ينسى الإشارة إلى محاولتهم سرقة ثورة 25 يناير، واستلامهم السلطة لفترة قصيرة، انكشف فيها عجزهم عن السير بالبلد إلى برّ الأمان، وازدياد حالات إرهاب المجموعات المسلحة والكنائس التي تحرق مع ازدياد أزمة التناقض، بين الموروث الديني والحقائق العلمية التي هي من مسببات الصراع النفسي، وعدم التوصل إلى مصالحة بين المفاهيم المتعاكسة في الخلق والكينونة مثل “الانفجار الكبير وخلق السماوات والأرض في ستة أيام”.

شخصية مي عبد الكريم “بحبك يا ربنا، ومش بخاف منك”. إشارة إلى فهم خاص ومفارق للسائد والمعروف، حيث رتبت علاقتها مع الخالق بعلاقة محبة خالصة، بعيدًا عن المقايضة بالأخذ والعطاء والعقاب والثواب، وبعيدًا عن الخوف والرعب، ولكن هذا الأمر جعلها ناشزة وغريبة في محيطها.

“الكركتر” المرسوم للأستاذ حامد الذي لحظه وهو يبول… وإشارة إلى كون المكان مناسبًا لمناقشة منجزه الأدبي مع مفارقة إحساسه بالفخر، كونه معروفًا حتى من الخلف، (السخرية المضمرة تكلم عنها باختين) شخصية موهومة بالنجاح الذي لم يحصل، تعكس حاجة المأزوم الدائمة إلى استعراض بطولاته ونجاحاته ووجود زوجتين له سافرة ومنقبة، وتفضيله للمنقبة التي لم يرَ وجهها أحدٌ سواه، يحيل إلى ازدواجية وتناقض المثقف في حياته الاجتماعية.

بالنسبة إلى الراوي المأزوم، بوضعه الاجتماعي ومشكلاته المتواترة، فعلاقته بزوجتيه (سلمى ودعاء) تعادل أجهزة المراقبة بأساليب مختلفة، ولكل واحدة أسلوبها وطريقتها في الامتلاك وانتهاك الخصوصية، وعملية خطف السرد إلى ذاكرة حلمية ماضية، بانتباه الآني الحاضر، عندما يتساءل: “من هذا الطفل، وكيف يكون ابني!” وذكريات الطفولة التي تداهم الفرد، باعتبارها جزءًا من أسباب الاكتئاب، استعصاء النوم بدون حبوب منومة والحوار “الفيسبوكي” المستمر مع من تقطعت بهم المسافات والدروب، عبر لعبة بعثرة الزمن واضطراب المكان التي يلعبها الكاتب عطا، ببراعة للإحاطة بالمناخ النفسي المكون للذات المأزومة.

المتغيرات السياسية وأحداث 25 يناير وقضايا الخلاف والسلطة والتوريث والحماس للتغيير وإقالة رموز الخيبة والخيانة: (هتفنا ضد رئيس التحرير، وقت الثورة، وقلنا: “لازم يمشي”، لكنني كلما قابلتُه في عزاء أحد الزملاء، كنتُ أشعر بالحرج الشديد، فمَن جاؤوا بعده لم يعمل أي منهم، وفق أسس تختلف عن تلك التي كان يعمل وفقًا لها).

جاءت كلها كخلفية زمنية مؤطرة لحيوات شخوص العمل ومواكبة للتغيرات النفسية والفكرية، على صعيد الفرد والمجتمع، والتي انعكست على المزاج العام في ارتكاسات الحلم والأمل في الذوات والنفوس، لما اصطلح على تسميته كآبة ما بعد الثورة، وانحسار الحلم على مذبح الواقع.

بالمشابهة، هذه المتغيرات تذكرنا بمسرحية زياد الرحباني “فيلم أميركي طويل” التي جسدت انعكاس الحرب الأهلية اللبنانية على النفوس والأفراد، في مشفى كذلك للأمراض النفسية، حيث تقف التناقضات الفكرية والنعرات الطائفية والعنف بأشكاله النفسي والمادي، وراء الكثير من حالات الشيزوفرينيا والاكتئاب العصابي، ويبقى الأمل الدفين في عبارة أمل دنقل التي يوردها في متن العمل: “لولا هذا الجدار، ما عرفنا قيمة الضوء الطليق”.

وأغنية سعاد حسني “بانو بانو.. على أصلكو بانو” التي تتردد في النص، في أكثر من موضع، رسالة ودعوة إلى الكشف والمكاشفة لجلي خفايا الحقائق، وفتح الستار على القضايا العالقة.




المصدر