كردستان بين الحلم والواقع


توفيق الحلاق

في بداية حلقة إذاعية من برنامج (حياة بلدة) عام 1975، قلتُ للمستمعين: “أتحدث إليكم من قرية في أقصى شمال سورية، لا تزال تعيش في القرون الحجرية، اسمها (عفرين)”، ولم أكن أُبالغ، حيث لم يكن هناك شوارع معبدة، ولا سيارات، أو هاتف، أو كهرباء، أو ماء، أو حتى مدارس، اللهم سوى مدرسة ابتدائية وحيدة، يُعلم فيها معلّم وحيد. لم أجد إلاّ شابًا واحدًا استطعت التفاهم معه إلى حد ما باللغة العربية، وبالطبع أنا لا أعرف اللغة الكردية، ولم أكن أعرف أن الأكراد يُشكّلون نسبة مهمة من سكان سورية؛ إذ كانت سياسة الأسد الأب، في تهميش وإذلال ذلك المُكوّن الأساس من المجتمع السوري، واضحة.

في عام 2004، رصدت كاميرا برنامج (ابن البلد) -بالصوت والصورة- فنانًا تشكيليًا كرديًا، كان يعيش مع زوجته وأمه وأخته وأطفاله في غرفة واحدة متهالكة، على طرف مدينة القامشلي الشرقي، وسط حي غارق في الطين والأوساخ، وردًا على دعوتي له كي يعرض لوحاته في دمشق، قال الفنان محمد: “أنا لا أستطيع السفر إلى هناك”؛ إذ تبيّن أن الرجل وأهله وكل أقاربه لا يحملون بطاقات هوية سورية؛ وبالتالي فهم سجناء ذلك الحي.

في تاريخ سورية والإمبراطورية العثمانية المترامية، يُطلعك الأكراد على أسماء أبطال تعرفهم، وقد كنت تظن أنهم من العرب، مثل صلاح الدين الأيوبي ويوسف العظمة ومئات غيرهم. بينما في السبعينيات، من القرن الماضي، كان يرسل حافظ الأسد جنوده إلى العراق؛ ليُعلّقوا الأكراد الثائرين على أعواد المشانق، كذلك حصد صدام حسين أرواح الآلاف منهم في مجازر مروعة مثل مجزرة (حلبجة).

يُجمع الأكراد -على اختلاف توجهاتهم السياسية- على رغبتهم في إقامة كيانٍ مستقل عن الدول التي تقاسمت النفوذ عليهم، وهي إيران والعراق وتركيا وسورية، بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، ورسم الخارطة الجغرافية الجديدة لتلك الدول من قبل الاستعمار الغربي، والتي لم تحسب للأكراد أي حساب، كأمة وقومية وشعب عاش قرونًا على أرضٍ متواصلة، وتجمعه لغة وتاريخ وثقافة وتطلعات، كبقية الأمم.

أتاحت حروب صدام حسين المتلاحقة مع جيرانه، ثم مع أمريكا، فرصةً ذهبية للأكراد العراقيين، حين استطاعوا توظيف تعاطف الغرب معهم، لإقامة كيان مستقل، حَظَرَ الحلفاء على طيرانَ صدام حسين المرور فوقه، وأسموه “كردستان العراق”، وفي هذه التسمية إرهاص وبداية لتحقيق حلم الأكراد بإقامة دولة “كردستان الكبرى” التي يعتقدون أن تعداد سكانها سيكون أكثر من خمسين مليون نسمة، وستمتد في الدول الأربع، حسب منشوراتهم وأدبياتهم.

اصطدمت قصة “الأرض التاريخية” بقصص نافية لذلك، ذات مرجعيات إسلامية وعربية وحتى غربية، تُنكر عليهم أحيانًا وجودَ تلك “الأرض التاريخية”، بينما أصبحت “كردستان العراق” اليوم حقيقةً واقعةً، تملك مقومات الدولة، خصوصًا بعدما تمكنت من التوسع إلى كركوك المدينة النفطية، وضمها دون مقاومة تُذكر من الدولة المركزية في بغداد، بسبب انشغال حكومة بغداد بحروب طائفية تعصف بكيانها وقوة جيشها، وهكذا أعلن مسعود البرزاني، رئيس إقليم كردستان، عن استفتاء سيجري في 25 أيلول/ سبتمبر 2017، بشأن الاستقلال في “كردستان العراق” نهائيًا عن العراق، وحسب البرزاني في مقابلات تلفزيونية وصحفية عديدة، فإن أحدًا من قادة العالم لم يعترض على قرار الاستفتاء؛ ما يعني أنَّ نتائجه ستحدد من سيعترف بالدولة الوليدة، ومن سيأخذ موقفًا محايدًا أو سلبيًا، وسيكون على “دولة كردستان” الجديدة -كي تُحصّن نفسها من الحصار- أن تتعهد لإيران وتركيا وسورية بأنها لن تدعم الحركات الانفصالية الكردية فيها، ولن تكون لها مقرًا أو ممرًا، وعليها أن تُساوم دول الغرب و”إسرائيل” على تسهيلات خاصة، تمنحها بموجبها استثمارًا في النفط إنتاجًا وتكريرًا وتسويقًا، وعليها الموافقة على إقامة قواعد عسكرية على أرضها، إن لزم الأمر؛ إذًا، هذه الدولة الوليدة لن تكون -على المدى القريب والمتوسط- مركزًا ينطلق منه الأكراد، لتحقيق حلمهم في “كردستان الكبرى”.

يمر الأكراد في سورية بمراحل مشابهة تقريبًا، لما مرَّ به أشقاؤهم في العراق، فهم يستغلون ضعف جيش الأسد وانشغاله مع حلفائه الروس والإيرانيين في حرب طائفية دموية، شملت معظم الأراضي السورية، وقوّضت إلى حد كبير سيادة الدولة على قرارها الوطني، وبات الرئيس وأركان حكمه مطيّةً للدول والميليشيات المسلحة التي استجلبها لمساعدته، وهو عاجز تمامًا عن الوقوف في وجه “قوات سورية الديمقراطية” التي يُشكّل الأكراد أساسها وقوتها، والتي تمددت على أجزاء واسعة من أراضي الجزيرة السورية، وباتت تُسيطر على نصف مدينة الرقة.

تتكون “قوات سورية الديمقراطية” من فصائل وألوية عربية وسريانية وتركمانية، لكن قوتها الأساس هي في “وحدات حماية الشعب” الكردية، وهي بذلك تُقدّم نفسها للعالم وللجمهور السوري على أنها “تهدف إلى إنشاء سورية ديمقراطية علمانية، يتمتع في ظلها المواطنون والمواطنات السوريين بالحرية والعدالة والكرامة، دون إقصاء لأحد عن حقوقه المشروعة”، لكن الكثيرين من السوريين يشكّون بهذه الأهداف، ويقولون إنها تبدلت لتصبح “إقامة كيان مماثل لكردستان العراق اسمه كردستان سورية”، تمهيدًا لإعلان استقلاله، وما يُؤكد هذه الشكوك تلك الخريطة التي نُشرت عام 2012، وقد وضعها مركز دراسات (ياسا) الكردي للدراسات والاستشارات القانونية، الذي يتخذ من مدينة بون الألمانية مقرًا له، وهي تمثل خريطة جغرافية لما أسماه “إقليم كردستان سورية”، في المنطقة التي يُشكّل الأكراد نسبةً من سكان مدنها شمال سورية، وتبدأ حدود “الإقليم الكردي” -حسب الخريطة التي أعدها المركز- من قرية عين ديوار التابعة لمدينة ديريك في محافظة الحسكة في أقصى شمال شرقي سورية، وتمتد بمحاذاة الحدود التركية لتصل إلى أقصى الشمال الغربي عند لواء إسكندرون، إضافة لما يجري الآن من مفاوضات في مدينة رميلان النفطية، بين الأحزاب والقوى الكردية المختلفة، للإعلان عمّا يشبه الدستور لكيان سياسي واجتماعي واقتصادي شبه مستقل، لـ “كردستان سورية”.

وهكذا، فإن السيناريو الذي أُنجزَ عمليًا في العراق يتم إنجاز شبيهه في سورية، وفق ظروف مشابهة إلى حد التطابق، عدو الأكراد هناك وهنا حكم ديكتاتوري، ارتكب بحقهم المجازر، ومنعهم من الحصول على أبسط حقوق المواطنة، وتأييد من تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة منحهم غطاءً جويًا وأسلحة متطورة لتحقيق مصالحه بواسطتهم، وفي الوقت نفسه منحهم الفرصة لتحقيق أحلامهم في “كردستان صغرى”، على أمل أن تقودهم على المدى البعيد إلى “كردستان الكبرى”.

مثل هذا السيناريو يصعب تحقيقه في سورية، إن لم يكن مستحيلًا، على المدى المنظور والمتوسط؛ فمن الناحية العملية، لا توجد للأكراد في سورية أراضٍ متصلة، بل هناك قرى قليلة يسكنها الأكراد فقط، وهي تقع بين قرى لعشائر عربية وسريانية ومسيحية، أما مدن مثل القامشلي والحسكة والرميلان وحتى عفرين، فهناك خليط من مختلف الانتماءات الكردية والتركمانية والعربية المسلمة والمسيحية والآشورية وغيرها، ولن تنجح عمليات التطهير التي قامت بها بعض الميليشيات الكردية، في فرض واقع ديموغرافي جديد، ثم إن غالبية الأكراد ارتبطوا بباقي المكونات السورية بالمصاهرة والصداقات، وهم غير معنيين، ولا يؤيدون قيام كيان كردي معزول، ولا سيّما أولئك الذين يعيشون في كل المدن السورية، منذ مئات السنين، ناهيك عن اضطرار “دويلة كردية” صغيرة إلى إقامة جيش خاص ومؤسسات أمنية وحكومية وعلاقات دبلوماسية خارجية هو فوق طاقتها من كل النواحي، إضافة إلى أن محيطها سيكون معاديًا، من الجنوب والشمال ومن الشرق والغرب، وفي كل حال، لن تكون دويلة ذات سيادة، وإنما ستكون بالضرورة “دويلة” تابعة لمن يدعمها.




المصدر