النظام وشركاء الظل


هوازن خداج

مظاهر مريعة من الانفلات الأمني والتدهور الاقتصادي وزيادة العنف السياسي، إلى تدهور الظروف الاجتماعية وما رافقها من احتقان طائفي ومذهبي وانتعاش للتطرف الفكري والديني وإحياء الخلاف في العلاقة بين الديني والسياسي، إلى التدخلات الإقليمية والدولية المعقّدة والمتشابكة، وصولًا إلى فوضى السلاح والأفكار والمفاهيم، صارت تشكّل عناوين عريضة وحاسمة في تقييم تجربة الربيع السوري، ووضعتها في مهبّ اختلاف الآراء التي تراوح بين الفشل المطلق، والثورة غير المكتملة، والثورة المستمرة.

آراء وطروحات متعددة تناولت الانهيار والصراع الدامي الذي أنهك وانتهك السوريين جميعًا على اختلاف مشاربهم، ووضعت يدها فوق الجراح السورية العميقة والمتأصلة في بنية المجتمع السوري، والتي كانت سببًا فيما وصلت إليه الحال السورية، وأهمّها ضعف تنمية المجتمع والحالة الاقتصادية المتردّية، كبت الحريات وغياب الديمقراطية ومؤسسات المجتمع المدني، تجنّب إحياء جميع الثقافات الموجودة في المجتمع والاستفادة من المزيج الاجتماعي والثقافي التعدّدي، التي عبّدت الطريق لانتشار ثقافة التعصّب والكراهية والخوف من الآخر المختلف، وأدّت إلى غياب الانتماء الوطني والتأسيس الصحيح لهوية ثقافية جامعة، تحترم الخصوصية الثقافية لكافة المكونات، إضافة إلى جملة الدساتير والقوانين التي لم يجر عليها أي تعديل، منذ الحكم العثماني أو الفرنسي، هذه المعضلات المتأصلة تضع النظام الديكتاتوري الفاسد “كمسؤول أول” -لا يمكن تبرئته- عمّا وصلت إليه سورية في مصائبها الحالية، وذلك بغض النظر عن التداخلات الإقليمية والدولية، إنما بالالتفات إلى معطيات الواقع وانتقاد الخلل في بنية المجتمع قد ينير الطريق باتجاه استنباط الحلول الممكنة.

وجود النظام -كمسؤول أول- لا يعفي أطرافًا أخرى سورية من تحمّل جزء من المسؤولية -قبل الحراك وبعده- كالمثقّفين والأحزاب، وحتى لا نقع في فخ التعميم، فالطيف الأكبر من المثقّفين قبل الحراك اتخذوا من قمع النظام وملاحقته للمشاريع الثقافية الساعية للتغيير التي تعتمد التعددية الفكرية، أساسًا في آلية تفكيرهم وتقييد حراكهم وفاعليتهم، واكتفوا بعيش حالة القلق “اللامجدي” من واقع الاستلاب السياسي، ولم يتوجهوا نحو الشارع العريض من الجماهير التي تشكو من أمراض الموروث الاجتماعي وسلاسل الفقر وانتشار الأمية والبطالة وغيرها، بحيث لم يتم إنجاز شيء على صعيد بناء الإنسان السوري، ولم يتم تثبيت أي رؤية واضحة للمكوّن المجتمعي وكيفية العمل على تفعيل كافة القوى والقدرات الفكرية والبشرية في المجتمع. وبعد الحراك كُسرت هوامش الخوف، لتظهر في صفوف النخب المثقفة بوادر الانقسام الواضح الذي ساد المجتمع؛ فاصطف البعض مع الحراك والمعارضة، والبعض تمترس خلف طائفته يحتمي بها وبمن يحميها، أما الجزء الثالث فتحوّل إلى صف النظام ينبري للدفاع عنه، رغم كل شيء وصار “ملكيًا أكثر من الملك”.

أما الأحزاب السورية فتمتلك أصلًا رصيدًا كبيرًا من المشكلات، بدءًا من مشكلة الانتماء التي كانت إما أوسع من حدود الوطن وتعتبر سورية مجرد كيان صغير قابل للانصهار في مجموعة أكبر، كـ “الأحزاب الشيوعية وحزب البعث والحزب القومي الاجتماعي والتيارات الأصولية الإسلامية المختلفة”، أو صغيرة كالأمة الكردية بالنسبة للقومية الكردية أو الآشورية أو الانتماء الطائفي والقبلي وغيرها، انتقالًا إلى مشكلة التعصّب للبنية الحزبية وممارسة معظمها العنف السياسي الداخلي نفسه الذي تمارسه السلطة على المجتمعات والأفراد بعدم قبولها الحوار البنّاء واختلاف الرأي بين أفرادها، واعتبار هذا “الرأي الآخر” معارضة للنظرية التي وضعت على الأقل قبل مئة سنة، ولم تعد تتناسب مع التطورات المجتمعية والعالمية، وصولًا إلى ما يمكن تحميله للأحزاب التقدمية العلمانية التي لم تستطع خلال وجودها امتلاك أيّ وسيلة فعّالة للانتشار وتكوين قاعدتها الجماهيرية، والتي وجدت مبرراتها الكافية في تعرضها للقمع من قبل النظام؛ لتتبنى بدورها حالة التهميش، وتغيب عمليًا عن تثبيت ركائزها في بنية المجتمع، تاركة الساحة السورية مفتوحة، لتحتل الأحزاب والتيارات الدينية والطائفية التي تم دعمها من قبل النظام كأوراق سياسية في وجه التهديد الديمقراطي العالمي، واستطاعت بناء مستنبتاتها في صفوف الشعب، لتزيد في المحرمات السياسية والتشظي المجتمعي في بلد متعدد الطوائف.

لا يمكن تبرئة النظام مطلقًا، ولكننا لن نبرّئ “شركاء الظل”، من الأحزاب الذين أثبتوا فشلهم في إحداث تغيير فعلي للأفراد المنضوين في صفوفهم والمصابين بأمراض المجتمع ذاتها من تزلّف ووصولية وجعجعة وبراغماتية وطائفية، ليكونوا مجرد تجمعات إقصائية معزولة “لا تحاور ولا تناور”، وقد ساهمت -على نحو غير مباشر- بوجودها الهشّ واصطفافاتها غير المحسوبة في الذهاب بالخطاب السياسي إلى خطاب ديني، وتحويل العقيدة السياسية إلى عقيدة دينية، وفتح المجال لتمدد أنواع الأصوليات المختلفة بكل مفاعيلها القاتلة.

مع دخول الحرب في سورية عامها الدموي السابع، في سياق “إفشال الثورة” الناتج عن عسف النظام -اللاعب الأساس ضمن مجموعة ضخمة من اللاعبين المحليين والإقليميين والدوليين-  والمعارضة “الرسمية” التي تحوّلت إلى لاعب ثانوي نتيجة عجزها عن امتلاك قوى اجتماعية قادرة على الدخول في سجال سياسي ومنافسة حقيقية مع السلطة أو طرح نفسها كبديل يتبناه الشعب، لا بل منها من راهن على أحزاب دينية كـ “الإخوان المسلمين” وعلى ميليشيات جهادية “جبهة النصرة وغيرها”، في تحقيق التغيير في سورية؛ لتبتعد كثيرًا عن كونها تسعى لتحقيق أبسط مطالب السوريين في الحرية والخلاص من الاستبداد، ما جعلها “شريكة ظل”، شأنها شأن الأحزاب العقائدية والأيديولوجيات التي منها من صار شريكًا في القتل أو الرفض ونفي الآخر.

أمام هذا الواقع، ما عاد يكفي تجريم النظام وإسقاطه، لإكمال الثورة وتحقيق مطالب السوريين أو القول باستمرارها، في ظل غياب مشروع ثقافي تنموي اجتماعي واسع يرفض كلا الاستبدادين “السياسي والديني”، ويتخلّص من عوالق الواقع الماضي والآني، ويتوجّه نحو الجماهير ضمن إطار التمسّك بالهوية الوطنية وبحق وجود الرأي الآخر، والعمل على حمايته أيضًا، وهو ما يعيد الفاعلية للتأثير الشعبي، بصفته الأساس الحقيقي في بناء المجتمع الحداثي الذي يلائم الجميع.




المصدر