بلسمة الاقتصاد السوري


أحمد سعد الدين

* مراجعة لدراسة ديفيد باتر الصادرة المعهد الملكي للشؤون الدولية (تشاذام هاوس)[1]

مقدمة

هذه المراجعة تخص التقرير الاقتصادي الثاني الذي أصدرته مؤسسة (تشاذام هاوس) للباحث ديفيد باتر. وكنا قد أشرنا إليه في مراجعة سابقة نشرتها (جيرون)، وقد نُشر هذا التقرير في سنة 2016، أي بعد عام من نشر التقرير الأول عن وضع الاقتصاد السوري. ويبدو واضحًا أنه يهدف إلى استدراك التغيرات التي حدثت منذ التدخل الروسي، إذ تعقدت فرص الحل السياسي بالتدخل المباشر لروسيا، كما تبددت أوهام المعارضة بإمكانية الحسم العسكري أو حتى تحقيق تقدم ملموس ضد قوات الأسد وحلفائه.

أهمية التقرير

للتقرير أهمية ملحوظة؛ إذ فضلًا عن صدروه عن واحدة من أبرز المؤسسات البحثية في الغرب[2]، فإنه يطرح مجموعة من المسائل المهمة إضافة إلى أنه يعكس مؤشرات في تغير التفكير في الغرب، إزاء سورية نتج بالدرجة الأولى عن تغيرات الواقع السوري مع براغماتية سياسية يمكن وصفها بقصيرة النظر، تحكم السياسة الغربية عمومًا والدولية منها خصوصًا. يحلل التقرير بعمق ما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية، ويطرح سؤال إعادة الإعمار والدور المحتمل للغرب، في إطار توصيف دقيق لآليات عمل اقتصاد الحرب، إضافة إلى تفتت البنية المؤسساتية للدولة ونشوء مناطق نفوذ اقتصادية شبه مستقلة.

لكن لعل النقطة الأبرز في التقرير، وهي التي تستحق الاهتمام الأكبر، طرح مسألة حقوق الملكية وتأثير الحرب عليها؛ إذ إن تهجير غالبية السكان وتهدم البنى التحتية السكنية سيخلق مشكلة كبيرة تتعلق بأحقية الناس في الملكية، وهي مسألة جوهرية لكي يعمل أي اقتصاد بفاعلية، بحسب التقرير. لكن أهميتها -بالنسبة للاستقرار في سورية- تتعدى بكل تأكيد الموضوعَ الاقتصادي؛ فهي مسألة تتقاطع فيها المصالح الفردية مع حقوق الجماعات الإثنية والدينية، في جو مشحون بكلام عن تغيير ديموغرافي، يقوده النظام بدفع من حلفائه الإيرانيين، وهي مسألة تمت الإشارة إليها في المراجعة السابقة.

منهجية التقرير وأهدافه ومصادر المعلومات

يحلل التقرير الاقتصادَ السوري، باستخدام مقاربة ثنائية الوجه، حيث ينظر إلى العلاقة بين استمرار عمل مؤسسات الدولة -ولو بالحد الأدنى- بالتزامن مع ازدياد تفتت الاقتصاد الوطني إلى مناطق نفوذ شبه مستقلة، لكنها تعتمد اعتمادًا كبيرًا على الدعم الخارجي. ويتطرق من هذا المنظور إلى التطورات في قطاعات الزراعة والطاقة وحقوق الملكية والارتباطات بينها، وتأثيرها في الاستراتيجيات المحتملة لإعادة الإعمار لاحقًا.

ويستند التقرير إلى بيانات من مصادر متنوعة، منها بيانات المكتب المركزي للإحصاء التابع لحكومة النظام، إضافة إلى بيانات وتقارير الأمم المتحدة، وبخاصة بيانات مفوضية اللاجئين ومنظمة الأغذية والزراعة، كما يستقي بعض المعلومات من الحكومة السورية المؤقتة التابعة للائتلاف، وبعض التقارير الصادرة من مراكز دولية مثل صندوق النقد الدولي ومنظمة أطباء بلا حدود، ومنظمة العفو الدولية، إضافة إلى تقارير وأبحاث كوكبة من الباحثين المهتمين بالشأن السوري.

أهم ما ورد في التقرير

يصف التقرير في المقدمة آلية عمل اقتصاد الحرب في سورية، فعلى الرغم من أن جزءًا من الاقتصاد الوطني ما زال يعمل؛ إلا أن البلاد تفتت إلى مناطق نفوذ شبه مستقلة. فمن جهة ما زالت الدولة تدفع رواتب الموظفين وما زالت تدير البنى التحتية، ويتم عبرها تسويق المنتجات وما زالت العملة السورية هي السائدة، لكن الخدمات الحكومية انخفضت انخفاضًا كبيرًا في الكم والنوع، كما انخفض الإنتاج بشكل كبير، وازدادت الواردات من كل شيء. وعلى الرغم من استمرار تنقل البشر والبضائع بين مناطق النفوذ وبين الدول المجاورة، إلا أن ذلك يتم بفرض رسوم مالية كبيرة، من قِبل الميليشيات المسيطرة، تشكل أساس تمويل نشاطاتها. هذه الظروف خلقت فراغًا تملؤه الآن قوى دولية، حيث تقوم كل من إيران وروسيا ومنظمات الأمم المتحدة بملء الفراغ الذي خلقه تقلص نفوذ الدولة في مناطق النظام، بينما تقوم بالوظيفة نفسها مؤسسات غير حكومية مرتبطة بالغرب، في مناطق المعارضة والميليشيات الكردية.

مع إصرار جميع القوى الدولية على ضرورة الحفاظ على مؤسسات الدولة السورية في علمية الانتقال السياسي، وهذا ما توافق عليه المعارضة علنًا؛ فإن صعوبات كبيرة ستواجه الجميع في رسم الخط الفاصل بين الدولة والنظام، وهذا ما يستغله النظام خاصة بعد التدخل الروسي في محاولة كسب المزيد من الأرض على حساب المعارضة، بينما توسع الميليشيات الكردية مناطق نفوذها، على حساب (داعش) مدعومة من “التحالف الدولي”. وقد خلق النظام مع داعميه واقعًا، يتعذر فيه الحفاظ على مؤسسات الدولة دون الحفاظ على النظام نفسه. إذن هناك فجوة كبيرة بين ما يُصرَّح عنه وبين ما يحدث في الواقع، وهذا ينطبق أيضًا على سلوك المعارضة المسلحة على الأرض وعلى طريقة إدارتها لمناطق نفوذها. هذه الوضعية ستكون إحدى تحديات إعادة الإعمار التي من الممكن أن تبدأ، خلال المرحلة الانتقالية، بعد الوصول إلى حل سياسي؛ ما يعني ضرورة دعم التنمية في مناطق النفوذ شبه المستقلة، بالتزامن مع مبادرات على المستوى الوطني.

يلفت التقرير النظر إلى أهمية الدور المحتمل لحلفاء النظام في إعادة الإعمار مستقبلًا، لكنه يشير أيضًا إلى محدودية موارد وقدرة روسيا وإيران على فعل ذلك؛ وبالتالي فلا غنى عن الدور الغربي والعربي. ويشير هنا التقرير إلى مخاطر تقوية النظام لموقعه في البلاد إذ إن الحكومات الغربية ستقع حينئذ تحت ضغط متزايد للموافقة على تمويل إعادة الإعمار عبر النظام بوساطة الوكالات المتعددة الأطراف (كمنظمات الأمم المتحدة والصليب الأحمر وغيرها). هذا يعني أن هناك مخاطر من أن يواجه الغرب خيارات محدودة، كتقديم مساعدات للنظام بشرط الحصول على تنازلات من نظام الأسد تضمن تعاونه في محاربة الإرهاب، والوصول إلى الحل السياسي لكن بالمقابل يمكن للأسد أن يشترط إزالة العقوبات الغربية والحصول على الدعم المالي أولًا. إذن إن رفض الحكومات الغربية لمواجهة النظام بحزم سيكون من عواقبه أن يكون للنظام قدرة كبيرة على المناورة في فرض شروطه، على برامج إعادة الإعمار.

يستعرض التقرير التغيرات التي طرأت على بعض المؤشرات الاقتصادية مثل التضخم الذي ارتفع بمعدل 40 بالمئة على مستوى البلد ككل، بين أيار/ مايو 2014 وأيار/ مايو 2015، بحسب تقديرات المكتب المركزي للإحصاء التابع لحكومة النظام. لكن من الملفت أن تفصيل الأرقام المعروضة على مستوى المحافظات يُظهر أن التضخم كان أعلى بكثير في مناطق سيطرة (داعش) إذ بلغ 62 بالمئة و66 بالمئة في كل دير الزور والرقة. وأمام تآكل قيمة الليرة في ظل ثبات نسبي للأجور الاسمية تبقى الخيارات محدودة جدًا، بالنسبة إلى عموم المواطنين الذين يتلقون دعمًا إما من الأقارب والأصدقاء في الخارج، وإما من المنظمات الإغاثية، وتبقى نسبة مهمة تشارك -بشكل أو بآخر- في اقتصاد الحرب من فساد وتهريب.. إلخ. الخيار الآخر هو مغادرة البلاد، وهذا عامل آخر على سورية المستقبل أن تواجهه والمتمثل بندرة الموارد البشرية المنتجة. يشير التقرير هنا إلى استراتيجية النظام في تدمير البنى التحتية في المناطق التي تخرج عن سيطرته، وهذا ما يدفع الناس إلى الهجرة، وبذلك يخفف النظام من أعباء دفع المرتبات، وفي الوقت نفسه يعاقب المدنيين الذين ارتضوا العيش في هذه المناطق.

في جهود النظام لجذب الأموال وكسر الحظر الغربي، أسس وكالة جديدة لتنظيم المنشآت الصغيرة والمتوسطة في محاولة لتحويل أموال الإغاثة الواردة إلى مشاريع إنتاجية. ويحذر التقرير أن الكثير من الوكالات الإغاثية يمكن أن تقبل ذلك، وبناء عليه ينبه إلى خطورة أن تنتهي الأموال في خدمة نظام الأسد، وينبه أيضًا إلى الصعوبات التي تواججها وكالات الإغاثة في متابعة وتقييم المساعدات التي تذهب لدعم المشاريع الصغيرة في مناطق المعارضة، بسبب غياب مرجعية قانونية للمحاسبة، لكنه في الوقت نفسه لا يذكر أن المشكلة الأساسية تكمن في إمكانية تعرض هذه المناطق للقصف الجوي.

لعل أخطر ما يناقشه التقرير هو مسألة حقوق الملكية، فالتهجير الكبير الذي تسبب به القصف المستمر للمناطق المدنية وللبنى التحتية، ولا سيّما بعد التدخل الروسي، سيخلق مشكلة كبيرة قد تنسف أي أساس للاستقرار السياسي، ما لم تتم معالجتها بطريقة عادلة تضمن حقوق الجميع، وهذا ما لا يتناوله التقرير بأي تفصيل، لكنه يؤكد أن الكثير من السجلات المتعلقة بملكية الأراضي والعقارات قد فقدت أو أتلفت بسبب القصف، وينبه التقرير إلى قيام الحكومة باستباق هذه المشكلة عبر الدفع إلى تأسيس شركات عقارية خاصة، سيكون لها صلاحيات الحلول مكان حقوق الملكية الحالية. ويشير إلى خطاب بشار الأسد في مشروع كفر سوسة. كما يُشير إلى الاستعدادات لدى بعض رجال الأعمال المرتبطين بعائلة الأسد كـ (محمد حمشو) للدخول في مشاريع إعادة الإعمار، خصوصًا أن بشار الأسد قد صرح بأن ذلك لا يجب أن ينتظر حتى نهاية الحرب. ويأتي في هذا السياق تأسيس “المجلس السوري للحديد والصلب”، برئاسة حمشو صاحب أكبر شركة تعدين (حمشو الدولية) والتي تقوم مع آخرين باستخدام “السكراب” أي الحديد الخردة الذي يتم جمعه من المناطق التي يسترجعها النظام والتي تكون قد تهدمت بالكامل وتهجر سكانها، كما حدث في حمص القديمة وحلب الشرقية، لاستخدام الحديد في عمليات البناء.

يذكر التقرير مشكلة تواجد قوات أجنبية، ولا سيّما تلك التابعة للحرس الثوري الإيراني، والتي تسيطر على مصالح واسعة في إيران، وقد تكون منجذبة إلى فرص الاستثمار في المناطق المدينية والصناعية المهجورة حاليًا. فهناك سلفًا شركات إيرانية منخرطة في تزويد الاقتصاد السوري بمعدات كهربائية وطبية، إضافة إلى استثمارات عقارية لا يذكرها بشكل مفصل، بينما تقوم شركات روسية بتأسيس قرية استيراد وتصدير في اللاذقية، إضافة إلى انخراط بعضها في إنتاج الغاز.

مناقشة وخاتمة

يناقش التقرير في ختامه الشروطَ التي يمكن أن تدفع المؤسسات الكبرى، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والصندوق الأوروبي للتنمية وإعادة الإعمار، إلى الانخراط في إعادة بناء الاقتصاد السوري، وهو حدوث اتفاق سياسي ذي صدقية، لكنه لا يحدد أي خصائص لتلك الصدقية. ويلمح إلى إمكانية حدوث توافق بين روسيا وإيران والغرب وبعض الحكومات العربية (دون أن يذكر أيًا منها بالاسم) على شكل من الانتقال السياسي، تترك العناصر الأساسية من نظام الأسد في مكانها، دون ذكر أي شيء محدد عن مصير الأسد نفسه. وعلى الرغم من إشارته إلى أن اتفاقًا كهذا لن يكون مرضيًا لقطاع مهم من السوريين في الداخل والخارج، لكن اتفاقًا من هذا النوع سيسمح لجهود المساعدة التي تقوم بها الأمم المتحدة، بأن تضع أساس كافيًا للتخطيط لعملية إعادة إعمار طويلة المدى. إذن من الواضح أن التقرير لا يستبعد حدوث اتفاق لا يرضي قطاعًا مهمًا من السوريين، من دون أن يناقش أن ذلك قد يكون العامل الحاسم في فشله.

يقرر التقرير في ختامه (بحق؟!) أن الوقت المناسب للتدخل العسكري الغربي ضد الأسد قد فات منذ زمن، وأن الحكومات الأوروبية بدأت بتقييم الأزمة السورية من معيارين فقط، وهما التهديد المحتمل من (داعش)، وواقع تدفق اللاجئين. كما يقر أن أي استراتيجية لتطويق هذين التهديدين لا بد أن تستند إلى تحسين الظروف الاقتصادية للسوريين، وهذا ما قد يدفع الأوربيين إلى التعامل مع حكومة الأسد بشكل أكثر، إذ إنه يعترف بأن الحكومات الأوروبية والغربية عمومًا متواطئة في منع سقوطه الآن. ويختم أن أقل ما يمكن أن يفعله المجتمع الدولي هو تقديم الاحتياجات الضرورية للاجئين.

إن الخطر الذي ينبثق عن هذه الرؤية التي يُختَتَم بها هذا التقرير (المهم جدًا على مستوى التحليل والمعلومات) هو أن النظام -الآن- لا يأبه لمساعدة الغرب في عملية إعادة الإعمار، وكل ما يريده النظام (وداعموه) من الغرب، في هذه الفترة، هو أن يبقى متفرجًا على أفعال النظام ومسترسلًا في دعمه للحرب على الإرهاب الذي يصر الغرب على اختزاله بالتطرف الإسلامي الداعشي أو القاعدي؛ فاستراتيجية النظام الحالية -كما نوه التقرير في أكثر من موضع (وهنا تكمن الغرابة)- تكمن في الاعتماد على روسيا وإيران، بحيث يتمكن من البقاء، ولو في الحد الأدنى، إلى أن يستولي على مساحات أكبر؛ وهنا سيكون الأسد وحلفاؤه في موقع المقرر لأي اتفاق يُعقد مع الأوروبين. فإن كانت القوى الغربية فعلًا تريد القضاء على الإرهاب وإيقاف تدفق اللاجئين -وهذا ما يقرّه التقرير- فلن يكون ذلك بحلول سياسية لا تُرضي عموم السوريين. إن التخلي عن أي من بنود جنيف الأول -سواء بشكل الانتقال السياسي أو بآليات تحقيق العدالة أو غيرها- ما هو إلا وصفة لاستمرار الحرب، وبالتالي المزيد من التطرف وانعدام الأمن.

في الخاتمة، قد يتساءل المرء: ما الذي يجعل دراسة غنية بهذا الشكل تنتهي إلى توصيات متهافتة إلى هذه الدرجة؟ أهي النزعة البراغماتية المنتشرة في الغرب والمتسترة بالواقعية لكن جوهرها في الحقيقة طمع اقتصادي يدفعها إلى التسرع للحصاد المالي الذي لن يبدأ إلا بإعادة الإعمار، وبالتالي التسريع في إنهاء الحرب؟ أم أن كاتب التقرير لا يريد أن يضع توصيات لا يكون لها آذان صاغية؟!

[1] – تقرير الدراسة موجود باللغة الإنكليزية على الرابط التالي: https://www.chathamhouse.org/sites/files/chathamhouse/publications/research/2016-03-15-syria-economy-butter.pdf .

[2] – انظر مراجعتنا السابقة في (جيرون) على الرابط التالي




المصدر