لكي نبني السياسة من جديد


جبر الشوفي

شكّل السقوط المدوي للمثل الاشتراكي صدمة ضرورية، لتنبيه الوعي المخدر والزائف للمناضلين الحزبيين والنقابيين ومجمل الحركة السياسية، بعد أن ساروا مسخرين بسحر الأيديولوجيا وبفعل التنويم المغناطيسي، خلف الاشتراكية والعدالة، إلى أن سقطت تلك اليقينية بسمة العصر مختزلة (بالانتصار الحتمي والتاريخي للاشتراكية) وانهيار الإمبريالية (أعلى مراحل الرأسمالية) التي ستخلي الطريق للنموذج الاشتراكي المتصاعد نحو الشيوعية، والمتمثل بقلعته الأساسية (الاتحاد السوفييتي العظيم) الذي أوهم أغرار السياسة وسدنتها التابعين، بأنه قد وضع قدمه على عتبة الشيوعية؛ فكان الانهيار الكبير الذي أخلت بموجبه الاشتراكية الطريق تمامًا لقوى الليبرالية الحديثة المنتصرة، لتدشن عهدًا للقطبية الدولية الواحدة، ولكنه لم يطل!

ترافقت تلك المرحلة التي شهدت انكسار القطب الاشتراكي المتيبّس عقائديًا وبنيويًا، وانتصار القطب الليبرالي الأكثر حيوية وقدرة على التجدد، بانهيار كامل للأيديولوجيات التي سادت عندنا، وانحلال عقد الأحزاب التقليدية ذات البنية الحديدية، كالأحزاب الشيوعية التي نشأت كتوابع للأيديولوجية الماركسية (الشيوعية) وبلد الاشتراكية الأول، أو بشيء من تأثيرها كالأحزاب القومية التي جمعت بين مفهومي التحرر الوطني والوحدة العربية ومفهوم العدالة الاجتماعية، أو تلك التي تغذت بالعداء المطلق لها، واتكأت على الدعم الغربي لمحاربتها وإقامة الشرع الإسلامي عبر إحياء دولة الخلافة، كحركة “الإخوان المسلمين”.

في واقع الأمر، بدت تلك الحياة الحزبية السياسية التي استحوذت على نخبة ثقافية سورية واسعة نسبيًا، منذ الاستقلال وحتى نهاية الحرب الباردة، واستقطبت عددًا من الوجوه النسائية المهمة أيضًا، أقربَ إلى التشكّل في مضمارها الوطني وفي مقارعة المستعمر الغربي، وفقًا لقانون الفعل وردّة الفعل، وسرعان ما علقت في دوامة التنافس والصراع الأيديولوجي بين المعسكرين، باعتبار أي منهما، كان ينطوي على مغريات نظرية ووقائع أرضية، تجعل التقارب معه أمرًا فائق الأهمية من أجل التصدي الناجح لنقيضه، وفي سبيل استكمال بناء كيان وطني بهوية وطنية خاصة مستقلة نظريًا عن الطرفين، ولكنها في الواقع ظلت أسيرة علاقات حيوية متعددة الأشكال معها، بما ضمن لها الحماية والأمن اللازمين، على الرغم من التحلّي بشعارات وطنية وتنموية وطموحات قومية وتحررية، لم تكن قادرة بطبيعة بنيتها السياسية والفكرية على تحقيق أي منها.

سهّل هذا الخواء السياسي في الساحة العربية بروزَ أنظمة عسكرية بشعارات تحررية وتقدمية، وجهتها الأساسية وخطابها نحو الاتحاد السوفييتي، بينما علاقاتها الاقتصادية والتجارية ومصالحها مرتبطة بالوكالات والسمسرة والمشاريع مع الغرب الذي لجأت إلى خصمه الشرقي أصلًا للحماية منه، ولتدفع بخلافات بينية واسعة مع أنظمة خليجية، تجندت في معسكر الحرب على الشيوعية، ولكن على الرغم من تقارب البنية بين الطرفين، فقد ظلّ كلاهما خارج مشاريع التنمية الحقيقية، وفي موقع التابع المشغول بمحاولة إسقاط خصمه العربي، قبل عدوه الإسرائيلي، بينما تركوا مجتمعاتهم ودولهم بدائية فقيرة، واستأسدوا بقوة تابعيتهم على أشقائهم وجيرانهم!.

كان على المرحلة التي تلت سقوط الاشتراكية وأيديولوجيتها أن تُسقط رموزها وقياداتها معًا، وأن تعيد بناء تنظيماتها ورموزها، سواء في الأنظمة السائدة أو خارجها؛ لأنها لم تعد ملائمة لا بطبيعة بنيتها وتركيبها، ولا في أخلاقياتها، للمتغيرات الدولية، لا أن تستمر بهياكل حزبية مجوّفة، تدور في فراغ الشعارات، بين اشتراكية متهاوية، وديمقراطية لم تزل مرذولة وعالقة مفهوميًا بالغرب الرأسمالي المستعمر؛ لتظلّ تعبيراتها خجولة وهشة في وجدان وثقافة النخبة المخطوفة نحو وعيها الجهادي، المتساوق مع وعي أنظمة تضع الديمقراطية في الوجهة المقابلة للصمود والممانعة والتصدي، وتعتبرها لوثة غربية تستهدف إسقاط النضال القومي من أجل تحرير الأرض والسيادة الوطنية!

ولشدّ ما برزت هذه المفارقة الفاقعة، حين صار الصراع المدّعى مع المؤامرة الكونية، لا يمرّ إلا عبر التجاوز على الدستور، والقفز فوق حاجيات المواطنين وظروف معيشتهم وكراماتهم وحرياتهم، والتي حمت مكاسب النخبة الحاكمة ووفرت ظروف إيغالها في سرقة المال العام، عبر فصل نظري سياسي اعتباطي، بين عوامل الصمود الداخلي والتصدي للخارج، والذي يمثله هذا التصريح المنافق لخالد بكداش، في أزمة الثمانينيات: “لو انطلقنا من الوضع الداخلي، لكنا في المعارضة”، حين كان المواطن يقف مذلولًا أمام المؤسسات، عسى أن ينال قسطًا من زيت القلي والسمنة والشاي والسكر ومختلف الحاجيات، بل لم يتورع هؤلاء وغيرهم من الجبهويين عن المشاركة في المسيرات الحاشدة اللاهثة بالدعاء الكاذب لبطل التشرينين، والحقّ أنه لم يكن سوى بطل التشريدين: تشريد المناضلين في المنافي والسجون، وتشريد الأسر خلف لقمتها وكرامتها وسلامة أبنائها.

طبعت هذه المؤشرات العامة -وكشفت- ما انطوى عليه سلوك النخب السياسية والثقافية المعارضة التي تلوثت راغبة أو كارهة بالفساد العام؛ فشكلت بؤرًا من الخراب المتاخم أو المتشابك مع الخراب الرسمي العام، وراح يتداول الأزمة المتصلبة بينه وبين النظام، فكل منهما عالق بطريقته، في دوامة لا سبيل إلى الخروج منها، إلا بكسر قالبه الذي يعني كسر منظومته الكاملة، ولم يكن هذا الكسر في المتخيل أو المتوقع من نظام ورث كل المنظومة المستبدة المتشابكة بالفساد، ولا من أحزاب تكلست وأبّدت قادتها التاريخيين، فذهب النظام نحو طبيعته القامعة، وذهبت النخب السياسية إلى لملمة شرائدها وملء الساحة بضجيجها، عوضًا عن العمل الممنهج، وحين بدأ حراك ربيع دمشق، بدا أنّ هذه الشرائد ما زالت تنوس بين عنترياتها واستجدائها لقوة الحاضن الاجتماعي الذي استعلت عليه، فانفكّ عنها.

منذ 2010، شكّل حراك الربيع العربي المحك الحقيقي، لكل مخزون التجربة السياسة وللبنية الأخلاقية للنظام ولمعارضيه، على حدّ سواء، فكانت ردة فعلهما دليلًا على البنية السياسية والثقافية والتربوية والأخلاقية المتشابهة لهما، فحين ذهب النظام إلى استنفار وسائل العنف المتاحة عنده، قابلته المعارضة بالعنف ذاته، واقتصر الفارق بينهما على درجة العنف ونوعيته المتوفرة، فعلى حين استخدم النظام سلاح القتل والاعتقال والتهديم والتهجير، قابله الخطاب المعارض بشعار “إسقاط النظام”، وهو شعار عسكري عنيف؛ لأنه جاء شكلًا من أشكال ردة الفعل على عنف النظام، ولأنه ظلّ مفتوحًا على التصاعد، حتى صار طلب التدخل الدولي شعارًا، يهدف إلى إسقاط النظام بقوة سلاح الآخر أيضًا، واستمرأ النظام والمسلحون اللعبة، وتبعهم السياسيون من كلا الجهتين، وكلاهما يصعّد وينوّع وسائله العنيفة، والسياسة تنزلق خلف المراهنة على السلاح، وتفقد نهجها ووهجها وتتحوّل إلى مجرد غطاء للسلاح ولفصائله، بكل ما شكلوه من عنف واستقواء واستكبار ورهان؛ فكان أن سقطت البلاد، بدلًا من سقوط النظام، وفرغت الساحة السورية من الحكمة والعقلانية في جانبي الصراع؛ فبتنا نتطلع إلى بناء السياسة الواقعية من جديد!




المصدر