مرزوق الحلبي في صالون الجولان: يجب أن تتجسد الهوية في مشروع سياسي


جيرون

عقد صالون الجولان التابع لـ (مركز حرمون للدراسات المعاصرة) اللقاءَ الثاني حول الهوية، مع الباحث مرزوق الحلبي، تحت عنوان “الهوية بين الحصن المغلق والميناء المفتوح”.

استهل اللقاء فوزي أبو صالح مدير صالون الجولان، بكلمة رحّب بها بالباحث مرزوق الحلبي من دالية الكرمل في مناطق الجذر الفلسطيني، مستعرضًا ما أنجزه اللقاء الأول من ندوة الهوية، الذي أقامه (صالون الجولان) في أيار/ مايو الماضي، تحت عنوان “الثقافة والهوية، المواطنة والانتماء.. الواقع والبديل”، وشارك في الندوة منير فخر الدين، والفنان وائل طربية، والباحث عامر إبراهيم، والناشطة آرام أبو صالح والناشطة ميسان حمدان من حراك (ارفض شعبك بيحميك).

في افتتاح اللقاء، أشار الباحث مرزوق الحلبي إلى أهمية وحساسية هذا الموضوع، بالنسبة إلى الأفراد والجماعات، وإلى قدرة الجولانيين في الأرض المحتلة على التوفيق بين هويتهم السورية وواقع الاحتلال، وأضاف: “إن موضوع الهوية هو مشكلة مطروحة لدى علماء علم الاجتماع والسياسية، ونحن -شأننا شأن المهتمين والمعنيين- مطالبون بالبت فيها، نتيجة ظروفنا ووقوعنا مباشرة تحت الاحتلال، فمسألة الهوية موجودة ومستمرة لدى مراكز القوة التي تعمل على بنائها على نحو يتلاءم مع مصالحها، بخاصة أننا نُعَدّ -بالنسبة إلى الاحتلال، والأفراد والمجموعات حولنا- أقلية قومية دينية، من هنا تصبح قضية الهوية، بالنسبة إلينا، نوعًا من التحدي”.

في هذا السياق، تم توزيع استمارة ذاتية على الجمهور، بهدف إشراكه في التفكير الذاتي في مسألة الهوية، تضمنت: (هل الهوية ثابتة أم متحولة؟ كيف تعرّف نفسك؟ هل تستطيع تعريف نفسك (هويتك) بكلمة واحدة؟ ما الهوية الأقرب، وما الأبعد إلى هويتك؟ أي هوية ستختار لو قُيض لك استبدال هويتك؟ الهوية وعي الذات لاسم بين الأسماء؟ الهوية وراثة ماض؟ ما رأيك؟

ثم استعرض الحلبي الهوية، بوصفها مصطلحًا سياسيًا، وتحدث في تاريخ نشوئها عربيًا، وارتباطها بالدولة القومية، وتطرق إلى مكونات الهوية كالتاريخ المشترك واللغة والأساطير والذاكرة التاريخية الجمعية المشتركة، والدين والمكان، الاقتصاد ودور الوقائع والأحداث والأساطير في تشكيلها، منوهًا إلى تجربة “إسرائيل” وكيفية بنائها لهوية مجتمع يهودي، عبر ابتداع أحداث ووقائع، وإغلاق ثغرات، في سياق التاريخ اليهودي الذي أُعيد بناؤه وتشكيله في عملية تكوين الهوية اليهودية؛ ليتوافق مع مصلحة “مركز قوة ما، لديه مشروع وبرنامج سياسي”، وتساءل في هذا السياق: هل بإمكان التاريخ والذاكرة أن يُشكّلا ضامنًا لوجود هوية أم هما بحاجة إلى مكونات مساعدة، وأضاف: “باعتقادي في كل السياقات، الهوية تصبح واضحة وحاضرة أكثر، إذا تجاوزت مُكوّن التاريخ المشترك، وما يعززها هو مشروع سياسي؛ لأن كل هوية نريد أن نحافظ عليها يجب أن تمتلك مشروعًا سياسيًا، كل دولة بنت ذاتها احتاجت إلى مشروع سياسي تدمج فيه شعبها، على الرغم من كل الاختلافات الإثنية والدينية”.

كذلك تطرّق إلى دور الماضي في عملية بناء الهوية، وقال: “لبناء الماضي المُشرف، أنت بحاجة إلى ترميم الماضي المشرف، تاريخ الجماعات ليس دائمًا مًشرفًا، نحن نرمم التاريخ، نرمم الماضي، نكتبه بما يتلائم مع مشروع الهوية وصهر المجتمع في بوتقة واحدة، كالمشروع الإسرائيلي ودور بن غوريون في بناء هوية إسرائيلية جامعة، وبالرغم من أن كل الأبحاث والكتابات أشارت إلى فشل مشروع بناء المجتمع الإسرائيلي الواحد؛ لأن إسرائيل ذاتها مبنية عى فرضية المواطنة، لكن ممارستها دينية تتناقض مع مفهوم المواطنة”.

اختتم الباحث محور مكونات الهوية بالقول: “عندما تقع تحت احتلال ما، تُصبح هويتك هي ثقافتك، وتصبح مسألة الهوية قضية يجب حسمها بكونها، جامعة على الجميع، الانضواء تحتها، من أجل أن تبقى، أن تصمد، ألا تذوب في هوية مركز القوة (الاحتلال). وأضاف: “يمكن أن تتحول الهوية في ظروف معينة إلى قلعة نتحصن فيها، إلى حصن مغلق، إن خرجت منه فالموت خيارك، قبل أن تخطو بأي خطوة خارجه، كالربيع العربي مثالًا (الحالة السورية، الليبيبة، اليمنية)، نحن مُطالبون بالدفاع عن هويتنا، نحن في أتون الصراع مع هوية تحاول تذويبنا، في مجالات معينة، يجب أن تُضحي لصون كرامتك، ويجب أن تتمرد حين تنتزع منك الإنسان الأخلاقي داخلك”.

بعد ذلك، استعرض مسلسل احتواء السلطة الإسرائيلية (للدروز في الداخل الفلسطيني) كأقلية دينية، وقال: “تم فصلها عن المحيط العربي (أواسط الخمسينيات)، كان فرض التجنيد الإجباري وإخضاعهم وصهرهم (أواسط الستينيات)، تمّ فصل معالجة الدولة الإسرائيلية لشؤونهم إداريًا، من خلال إحالة شؤونهم من الدوائر العربية إلى دوائر مستقلة، ثمّ تمّ إقامة المحاكم الدينية الدرزية، كجسم قضائي مستقل يبت بالأحوال الشخصية. ومن بعدها (أواسط السبعينيات) جاء فصل جهاز التعليم في القرى الدرزية عن الدائرة العربية وتوظيف موارد عامة هائلة، لإقامة جهاز تعليم تمّ تدريزه بالكامل، من خلال استبدال المضامين والقوى البشرية في التعليم المنهجي وغير المنهجي”.

وتابع: “على مدار هذه السنوات، عمدت السلطة الإسرائيلية إلى استحداث سلسلة من طقوس ومراسيم وأحداث مصممة تؤدي في منتهاها إلى هدفين: تثبيت فصل الدروز عن مجموعة انتمائهم العربية، وشدهم إلى مركز القوة الإسرائيلي بقوة. وابتدع وخلقَ احتفالات دينية رسمية خاصة بهم، تحتفل بها الدولة الإسرائيلية بعلاقاتها المميزة بالدروز، وتمّ حذف وإلغاء مناسبات واحتفالات من “الروزنامة” الدرزية؛ لأنها من القيم المشتركة لهم ولغيرهم من المسلمين! وقد أفضى كل هذا بالدروز إلى حالة صاروا فيها مجموعة مهاجرين، لها خصائص هذه المجموعات وسلوكها، وكأنهم لم يوجدوا إلا مع وجود الدولة وبفضلها فقط؛ فالتصقوا بمركز القوة اليهودي يقبعون في ظله يشكلون صدى لصوته أو انعكاسًا للونه! فتأكيد “إسرائيل” على خصوصية درزية ترقى إلى مستوى تشكيل هوية مستقلّة أرادوها ضدية للهوية العربية عامة، وفي ضوء تأكيدها على تميز العلاقة بينهم وبين السلطة كانا خلفية لاستحالة فهم غالبية الدروز لسوء أحوالهم نسبيًا، في كل ميادين الحياة، لا سيما التحصيل العلمي والاقتصادي والتطور والتنمية. فمع استمرار الهجمة السلطوية على الأرض، وتدني مستوى الخدمات، وغياب التطوير والتصنيع؛ زادت أسئلة جيلين كاملين من المواطنين الدروز، حيال السلطة وحيال تجربتهم التاريخية ونتائجها. لكن، هذا هو شقّ واحد من المعادلة؛ فبينما حصل للدروز ما حصل على جبهة العلاقة مع مركز القوى الإسرائيلي ومع الغالبية اليهودية، حصل لهم ما حصل في جبهة العلاقة مع مجموعة الانتماء العربية، وهذه مسألة قائمة بحد ذاتها. فلا يختلف عاقلان في أن سياسات مركز القوة اليهودي وقيادات درزية متعاقبة أفضى إلى نوع من الجفاء -إذا صحّ التعبير- بين الدروز ومجموعة انتمائهم العربية، وتحوّل ذلك الجفاء، في كثير من الأحيان، إلى توتّر وعنف ومواجهات (ملاعب كرة القدم مثلًا). وأخطر ما حدث في هذا الباب أن قطاعات في المجتمع العربي هنا أقصت الدروز بوصمهم بـ (الخيانة)، ولهذه الخيانة المفترضة من جانب مجموعة الانتماء العربية وجه آخر، وهو تصنيف الدروز عملاء ومتعاونين مع السلطة. ولم يقتصر هذا الإقصاء وهذا التصنيف على قلة عربية راديكالية أو أصولية، بل تحوّل إلى حديث علمي أو مصارحة ومكاشفة من قوى تعتبر نفسها وطنية! هذا على الرغم من وجود يسار درزي فاعل متواجد في الحيز العام ديمقراطي النزعة عروبي الهوى حفظ جذوة الانتماء وحمل سؤال التاريخ بإخلاص، إلا إن فعله بقي في الظلّ رغم نوعيته، وأثره بين الدروز ظل محدودًا رغم مثابرته”.

من هنا شدد على أهمية أن يُدرك الدروز وغير الدروز دقةَ المرحلة وحساسية الحالة الدرزية، وقال: “الدولة التي أرادت احتواءهم أبقتهم في خانة الأقلية بالنسبة إليها وإلى المجموعة اليهودية صاحبة السيادة هنا، وأعتقد أنها غير قادرة على تغيير هذه المعادلة، بسبب من بنيوتها الإشكالية في ما يتعلّق بغير اليهود، لكن سيكون من الخطأ أن تُبقي المجموعة العربية على تعاملها مع الدروز على أنهم خونة أو أقلية مُقصاة أو مشذبًا تُعلّق عليه أزمات العرب ومشكلاتهم وإخفاقاتهم. لقد أخطأت المجموعة العربية، عند تخوين الدروز وإقصائهم، على نحو نمّ عن قصور في فهم السلطة ومبنى القوة ومركز القوة والخصوصية المذهبية، وعليها أن تصلح الخطأ، لكننا نُحذّر من مغبّة تلافي الخطأ بالانتقال انقضاضًا إلى محاولة احتوائهم أو ضمهم قسرًا كجزء من استراتيجيات مواجهة السلطة وسياساتها. أو إلى إذكاء إنشاءات عروبة الدروز لفظيًا، وكفى الله المؤمنين القتال!

في ختام اللقاء، قال الباحث الحلبي: “يجب أن تُبنى الهوية على منظومة أخلاقية غير مجزأة، على قيم وأخلاقيات، يجب أن تتجسد في مشروع سياسي، والهوية هي ممارسة وفعل يومي، كلنا نشارك فيه، يجب أن نُطوّر الهوية باتجاه أخلاقي مُشرِّف، فإن كان مشروع الهوية عدميًا فاشلًا، يجب الخروج من إطاره، وتغيير النمط السائد، وإنِ اتهموك بالعمالة أو الكفر، فعملية بناء الهوية يمكن أن تُحوّل الأفراد إلى وحوش.

يُشار إلى أن مرزوق الحلبي هو صحافيّ وأديب، وشاعر وناقد أدبيّ وثقافيّ، ويكتب زاوية ثابتة (عمودًا ثابتًا) في صحيفة (الحياة) التي تصدر في لندن وبيروت والمملكة العربيّة السعوديّة. في السابق كان محرّر الصفحات الثقافيّة في صحيفة (الاتحاد)، وقد شغل مناصب تحريريّة مختلفة مدّة 14 عامًا.




المصدر