‘“سوريا كلها بتحميني”’
29 آب (أغسطس - أوت)، 2017
سوزان علي
[ad_1]
صباح الخير فدوى، كيف حالكِ اليوم، الطقسُ في دمشق أصبح لطيفًا، والخريفُ غطّى البيوت والأرصفة والأشجار وشرود الحدائق.
أخبرتني جارتي أنّ لسعة البردِ هجمتْ باكرًا، وبشكلٍ مفاجئ، وأنّنا سنعاني كثيرًا إن لم نُجَهز الوقودَ والحطبَ الكافي لتدفئتنا، فالشتاء هذه السنة سيكون قارسًا جدًّا، أعلمُ أنك سمعت أخبارًا لا تنتهي، تشبهُ هذه الأخبار، من أمكِ -ربما- أو أختكِ، أو من ظلالِ صفصافةٍ مررتِ تحت قلقها يومًا ما. الكلامُ يتكرر يا فدوى، كما الموت، لكن هناك كلامٌ من نسيجٍ مختلفٍ، يأتي مرًة واحدًة في الحياة، نسمعهُ مرةً واحدةً في الحياة، لا يتأثر بالفصول، ولا بالخرافات، ولا بلون الصدأ حول الكرسيّ، يحتاجُ حبالًا صوتيًّة زرقاء كي تردده، قفصًا صدريًّا على هيئة شرفةٍ.
في إحدى مساءات عام 2012، كنتِ تقولين: القوّة تستطيع أن تُقطّع شوارعَ سورية وأحياءها؛ لكن لا يمكنها أن تُقطّعَ صوتَ الحريّة الموجود في قلبِ كلِّ سوريّ.
أسمعُ الآن أغنيةً لفيروز، تقول بدايتها:
“بعدك على بالي، يا قمر الحلوين، يا سهر بتشرين، يا دهبي الغالي..”. هل تحبينَ هذه الأغنية؟
السماءُ في دمشق اليوم، تشبه السماء فوق قبركِ
رأيتُ عصفورًا يحطُّ قرب النّعش
زهرة بيضاء تفتَحتْ
لتحجبَ خجلكِ من الموت.
لا قبور للعيون العسلية
أخبرنا حراس المقبرة
لا مدافن للأصوات
قالت الريح مسرعة.
فوق دبّابةٍ يلوح الطغاة
في جوف دبابة يعيش الطغاة
أمام دبّابةٍ يسير نعش الطغاة.
صنعتُ قهوتي ببطءٍ منذ قليل، علّقت المنشفة في مقبض الباب، بحثتُ عن المنفضة مطولًا لأجدها تحت الطاولة، هاتفي يحتاج إلى أن أشحنه قليلًا، المأخذ الكهربائيُّ معطلٌ في هذا الركن، لقد انطفأ الهاتف يا فدوى، عندما كنتِ تقولين في إحدى التسجيلات: “العالم كلّه خذلنا”
عند الضباب الكثيف
تغدو الجسور نكتة قديمة
أريدُ أن أضعَ صورةً لكِ في بيتي، ولكنني حائرة أين سأعلّقها؟
أفتشُ لعينيكِ عن مكانٍ وحيد، يميلُ برهافةٍ على الظلالِ كأنوثتكِ، عن زاويةٍ صامتةٍ لا يخدشها الهمس، تستطيعين فيها أن تكتبي الشعر والرسائل، أن تسمعي أغنياتكِ التي تحبينها، أن تنتظري معي سقوط المطر، فأنا وحيدةٌ وخائفةٌ، يا فدوى.
ما عليكِ الآن سوى أن تقوديني إلى المكان الذي يرغبُ وجهك أن يرنو منه إلى العالم، فكلّ تذكارٍ أو أثرٍ أو صورةٍ في بيتي لم أضعها أنا، هي اختارت أريكتها ونافذتها من تلقاء نفسها.
في الأمس، بقيتُ مع مقطعٍ صوتيٍّ لكِ، حتى ساعةٍ متأخرةٍ من الليل، وضعتُ سمّاعات الهاتف في أذنيّ، كي أتمكنَ من سماع رجفاتِ الموج الأخيرة في حنجرتك، لم أكن أريدُ أنْ تهربَ أيّ يدٍ صورةٍ حقلٍ خطوةٍ منامٍ قصيدة في بحّةِ صوتكِ، خلسةً عنّي.
كلما كان جذر الشجرة أصيلًا
امتدّ الفيء حاضنًا الأشواك والزهور والغرباء والعاطلين عن الأمل.
رآكِ الأطفال تهتفين، عادوا إلى النهر وكسّروا المجاديف، كنت أقلّد غناءكِ، لكن ليس باستطاعتي يا فدوى -كما تعلمين- أن أسمع صوتك دون سمّاعات الهاتف، أن أتركَه يمشي بكلّ حريّة كما خُلق وعاشَ، قافزًا فوق الأسوار والقلاع والساحات، فصوت الليل “بيودي” كما يقولون عندنا، وقرب بيتي يسكنُ ضابطٌ في الجيش، وفي الطابق الأعلى يقيمُ مخابراتيٌّ قديمٌ مع زوجته، وأغنيتكِ باستطاعتها أن توقظَ هذه البناية بأكملها، وتقلبها رأسًا على عقب. ربما يبدأ جميعُ سكانِ الحيّ بالبحث عنك من جديد، فلا أحد هنا يصدق أنكِ رحلت، وأنا لا أريدُ لأحدٍ أن يزعجكِ بعد الآن.
أقلبُ صوركِ، أحبُّ كنزتك الصوفية السوداء التي كنت ترتدينها في حمص، لكن هذه الصورة هي الأقرب إلى قلبي، التي تجلسين فيها على بساطٍ فوق الأرض وقربك مدفأة، أحضرُ كوبًا من الشاي، وأفتح ستار النافذة ليدخل الضوء إلى الصورة.
الشمس أصبحتْ تغيبُ باكرًا، ورائحةُ المؤونة تفوحُ في الهواء. عند الرابعة ظهرًا يعود الموظفون إلى بيوتهم بسياراتهم المتّسخة، أو يُخرجون رؤوسهم المزدحمة من نوافذ باصات النقل الداخلي، كي تستنشق الهواء. مشاجرةٌ قصيرةٌ تدورُ في الشارع بين صبيةٍ يلعبون الكرة، رصاصٌ مدو قرب باب المستشفى، لا فرق بين الموت والحياة يا فدوى، فقاعةٌ ندورُ في فراغها، مرغمين على تصديقها تحت أشعة الشمس القديمة.
لا شيءَ جديد أكتبه لكِ يا فدوى، سوى أن أمي هاتفتني عند الظهيرة، وقبل أن تقفل الخط وتنهي مكالمتها، أخبرتني أن كلّ القبور المفتوحة سلفًا، قد طمرَها مطرُ الخريف وأوراق الريحان اليابسة.
الغيمة التي توقفتْ فوق قبرك، الغيمةُ السميكةُ البيضاء، لم تخرج من بيتها منذ سنين طويلة.
خذلنا العالم
يدُكِ الخارجة من رحمكِ
كتبتْ نشيدنا الوطني: واحد واحد واحد… الشعب السوري واحد.
عندما تفتحين رسالتي، لا ترمي الظرف، ألصقتُ على طرفه غصنَ زيتونٍ من قريتي، وأرفقتُ مع الرسالة صورة قديمة للشام، في الوقت الذي سترين فيه الصورة، سيبكي العالم، كما لم يبك من قبل.
اطمئني، سأبعثُ لكِ برسائلي دومًا، وسأخبرك بأدق التفاصيل التي تحدث.
فدوى لن تستطيعَ الحريّةُ أن تمشي، دون أن تضعَ زهرة فوق قبركِ أولًا.
نامي بسلام الآن.
[ad_1] [ad_2] [sociallocker]
[/sociallocker]