غاليغولا الصغير!


علي الكردي

لا أدري كيف وجدتني -على غير طبيعتي- منفعلًا، ومدافعًا شرسًا عنها. يغضبني كلّ من أراد مسّ شعرة من رأسها، ولو بكلمة عابرة، لا يقصد صاحبها الحطّ من قيمتها، أو التقليل من شأنها. فجأةً أراني منساقًا إلى سيل من الشرح، والتأويل، والغوص في تلافيف الذاكرة. أستحضرُ أمثلةً من هنا، وحكايات من هناك.. أروي شواهد وأحداث عمّا كانت عليه أحوالها، وما آلت إليه من تشوهات، وتلوّث، وترهّل، وغبار… نال من صورتها، وشوّه جمالها، وترك آثار جراح وأثلام في جسدها.

رفضتُ بشدّة مبررات ساقها أحدهم -بحسن نيّة- عن سوء التخطيط، والفوضى، والنمّو السكاني المتسارع، وعوامل أخرى في هذا السياق، أدت إلى تردّي حالتها.

قلت بحدّة: هذا ما جرى، لكنه لم يكن عفو الخاطر، بل بفعل فاعل، وبعمل منهجي، تمّ على أيدي هؤلاء الذين تعاملوا معها، كغزاة غرباء، لعلها تذعن لهم، وتسلمهم مفاتيح روحها، لكنها -على طريقتها منذ آلاف السنين- تأبى، وتتمنع، وترفض الكشف عن كنوز أسرارها. كأن هؤلاء ليسوا من سلالة أبنائها، وإلّا لما أوغلوا في طعن جسدها، بخناجرهم المسمومة، غيظًا، وحقدًا، وطمعًا، وتشويهًا.

قد يظن هؤلاء العابرون الذين -يا للمهزلة- يتبجح رأسهم اليوم بالحديث عن “التجانس”، أنهم نالوا منها، لكنهم سرعان ما يكتشفون أنها عصيّة، مليئة بالألغاز والأحاجي، لا تعطي نفسها بسهولة، مهما حاولوا، ومهما طال الزمن. بل سأقول لك بيقين: في نهاية المطاف هم من سيذعن لإرادتها، وجموحها، وكبريائها صاغرين؛ لأن أصالة روحها متجذّرة في الطبقات المتراكمة في تربتها وحجارتها التي تخفي أكثر ممّا تظهر. هي الآن تبتسم في سرّها ساخرةً.. تقول بحكمة العارف: كم مرّ على رأسي من أمثالكم أيها الجبناء، ممّن ظنوا أنهم، بعبثهم في جسدي، قد نالوا من نقاء روحي، لكنهم خسئوا. الزمن بيننا، كان دائمًا الفيصل والمعيار.

سألت محدثّي: هل زرت سورية؟!

قال: مرّةً واحدة، منذ نحو عشرين عامًا. كنت عائدًا من ألمانيا لزيارة أهلي في الضفة الغربية، وعلى غير عادتي، لم أحجز بالطائرة إلى عمّان مباشرةً، بل أردت أن أحوّل رحلتي إلى سياحة، أتعرّف خلالها على عدد من البلدان والمدن. تنقلّت بالقطارات في أوروبا، ووصلت إلى اليونان، ثمّ أكملتُ طريقي عبر رحلة بحرية إلى ميناء طرطوس. كنت على موعد مع أقارب لي في دمشق، رغبت في الإقامة عندهم بضعة أيام. كان بودي زيارة عدة مدن سورية، لكن للأسف لم يكن لدّي الوقت الكافي. صمَت لحظة -كأنه يستعيد صورةً ما في ذاكرته- ليتابع: بصراحة.. هالني حين وصولي إلى مشارف دمشق، في ذاك الصباح الباكر، منظرُ سحابة رمادية، هي أقرب إلى السواد، تغطي سماء المدينة التي استيقظت لتوّها. شعرت بانقباض في صدري، لأن صورة دمشق-الياسمين التي رسمتها في مخيلتي -حسب ما قرأت وسمعت عنها- لم تكن تلك التي استقبلتني ذلك الصباح، بوجه كالح، لا يبعث على البهجة والارتياح!

صعد الدمُ إلى رأسي، ليس ممّا قاله الرجل، بل من احتشاد تلك الصور والتداعيات التي تدفقت في رأسي شلالًا من التفاصيل، والتحولات التي طرأت على البلد الذي عشت فيه ستين عامًا من عمري، لم أغادره إلّا لبضعة أسابيع، أو أشهر، أعود بعدها إليه، لأنني لا أشعر بالطمأنينة، والسلام الداخلي، والروحانية إلاّ بين أزقته، وحاراته القديمة التي أعرف دهاليزها، وحجارتها حجرًا حجرًا. تلك التي تبدو للغريب متاهةً مدوّخة، يضيع في معارجها التي لا تنتهي. اختلف المشهد بعد الثورة، مع إمعان نظام الاستبداد في القتل والتدمير والتهجير، ثم مع تفاقم ظاهرة الإرهاب التكفيري، الداعشي والنصروي.. الذي اغتال ما تبقى من أحلام الثورة بالحرية والكرامة؛ فكان لا بدّ لي أن أهاجر، مع ملايين المهجّرين الذين فقدوا كلّ شيء!

علّق صديقٌ من الحاضرين: بصراحة.. بتُّ أمقت أحاديث “النوستالجيا”، والحنين الممجوج عن الياسمين، والوطن، وحجارته. الوطن بالنسبة إلي هو المكان الذي يحترم إنسانيتي، وكرامتي، وحريتي. لقد عشنا في بلدنا غرباء، مهمشين، مضطهدين. وتابع: خذ على سبيل المثال مدينة مثل دمشق، أو حلب بدرجة أقل، حتى قبل الثورة لم تكونا حاضنة دافئة، لأبناء الأطراف، مهما عاشوا فيهما. المدن الكبرى في سورية، مثل شرنقة منغلقة على ذاتها، لا تتقبّل الآخر. المسألة لا تتعلّق فقط بما فعله النظام، بل ثمة أسباب أخرى أعمق، لها علاقة ببنية هذه المدن، وتركيبتها، وإلّا لماذا ذلك الشعور المتناقض، بين الحب والكراهية، الذي ينتاب كل من عاش في دمشق، من غير أبنائها! لماذا هذا التعلّق بها، والشعور بالنفور منها في آن معًا؟!

للأسف غاب عن ذهن صديقي -الذي لا أشك في معارضته لنظام الاستبداد ولواحقه- أن كلامه يصبّ، من حيث لا يدري، في طاحونة منظّر “التجانس”، فهل علينا أن نعيد تعريف مفهوم الوطن، ومعنى “المواطنة”؟ ولماذا هذا الخلط بين الوطن، ونظام الاستبداد؟! أليس من حقنا الحنين إلى الوطن الذي هُجّرنا منه قسرًا؟!

المسألة بالتأكيد ليست مجرد “نوستالجيا” للحجارة والذاكرة والحكايات في بلاد الضوء والشمس.. هي أعقد من ذلك بكثير.

نسي صاحبي: كيف تشكلت بلادنا عبر آلاف السنين، وكيف أصبحت فسيفساء من الأقوام والديانات والمذاهب التي انصهرت في بوتقتها، كي تشكلّ مزيجًا من التنوّع والغنى المعرفي والثقافي الذي أصبح مصدر جمال وتفرّد وخصوصية، لكنه تحوّل -على يد الاستبداد والإرهاب- إلى لعنة حلّت بنا، وبتاريخنا، وبلدنا بعد خمسين سنة من الخراب، وسقوط القيم، والاستقطاب الطائفي الذي أيقظ من تحت التراب النزعات الانفصالية، والهويات الجزئية، وكل الوسخ المتراكم الذي أعادنا إلى ما قبل الدولة الوطنية.

نسي صاحبي أنّ أجدادنا، بعد خروج العثمانيين، وأثناء فترة الانتداب، وبعد الاستقلال، قد أطلقوا سيرورة بناء الدولة الوطنية، ومؤسساتها التي كان من المفترض أن تصهر الهويات الجزئية في إطار الهوية الوطنية الجامعة، من خلال إطلاق حرية التعبير، والصحافة، وتشكيل الأحزاب، واستقلال القضاء، وآليات الديمقراطية التي ستفضي إلى التنمية الاقتصادية والاجتماعية. انقطعت تلك السيرورة بفعل الانقلابات العسكرية التي مهدت لسيطرة الدولة الأمنية، ونظام الاستبداد الذي أمعن في خراب البلاد والعباد، إلى أن وصلنا إلى ما وصلنا إليه.

سيبقى الوطن لكل أبنائه، على اختلاف انتماءاتهم، ومشاربهم، ولا حلّ سوى دولة القانون والمواطنة التي تحفظ حق الجميع، دون تمييز على أساس عرقي، أو ديني، أو جنسي. كل ما عدا ذلك هو مجرد هراء، لن يصمد أمام الوقائع العنيدة على الأرض، مهما حاولوا، وفعلوا.

عن أي ” تجانس” يتحدث هذا القابع في قوقعته بقصر المهاجرين! دون أن يدري أنه خارج التاريخ. لقد سلمّ الطاغية مفاتيح البلاد للغزاة، كي يحافظ على كرسيه الذي أصبح هيكلًا فارغًا، دون أدنى سيادة، أو ذرة كرامة وطنية. قتل “غاليغولا” الصغير شعبَه، ودمرّ بلاده، وفتح أبوابها لكلّ الغزاة والأفاقين من كل أرجاء الأرض، ثم خاض معارك وهمية مع عيدان القصب الجافة، كي يقنع ذاته المهزوزة، بأنه حقق نصرًا أفضى إلى “التجانس” المزعوم، مع تلك النفوس الميتة.

التاريخ لا يرحم، وسيضع نهاية لكلّ تلك الترهات. نقطة في آخر السطر.




المصدر