المهم ما تفعله المعارضة وليس ما تقبله أو ترفضه
30 آب (أغسطس - أوت)، 2017
ماجد كيالي
في الظاهر، أن اجتماعات الرياض التي جمعت بين “الهيئة العليا للمفاوضات” ومنصتَي القاهرة وموسكو، مؤخرًا، لم تنجح؛ إذ رفض وفد الهيئة الأطروحات التي قدمتها منصة موسكو، وبالتالي فهي فوّتت استهدافات هذا الاجتماع الذي كان يفترض فيه فرض بعض الإملاءات السياسية على الهيئة، وأهمها التراجع عن (بيان جنيف1)، واقتصار المرجعية على القرار 2254 (2015)، وتعويم الموقف من رأس النظام.
بيد أن الأمور في الحقيقة أعقد وأعمق وأخطر من ذلك؛ إذ إن مجرد جلوس وفد الهيئة، التي تمثل أكبر قدر من الكيانات السورية: السياسية والعسكرية والمدنية المعارضة، بما فيها هيئة التنسيق، هو تراجع كبير عن مواقفها أو ثوابتها السابقة التي كانت تصر فيها على وحدانية تمثيلها للمعارضة؛ هذا أولًا. وثانيًا: بدت الهيئة في هذا الاجتماع وكأنها بمثابة منصّة أخرى، مع منصتي القاهرة وموسكو؛ ما يعني أن مكانتها التمثيلية أو الاعتبارية باتت موضع شك أو موضع مراجعة.
في الواقع، إن هذا الأمر لم يحصل اليوم، وإذا أردنا أن نرى القصة كاملة -بوضوح وموضوعية- بعيدًا عن المكابرة والإنكار؛ فإن الهيئة العتيدة أطاحت مكانتَها الاعتبارية، برضوخها لمسار أستانا الذي بدأ مطلع هذا العام، بل إن “الائتلاف الوطني”، وهو الكيان الرسمي للمعارضة في الخارج، وافق أيضًا على ذلك، والمشكلة الأكبر أن ثمة كيانات عسكرية قبلت لعب هذا الدور، أي شق مسار تفاوضي آخر، كبديل عن مسار جنيف، وخلق كيان تفاوضي آخر، كبديل عن “الهيئة العليا”. والمعنى أن هذا الأمر لم يبدأ مع اجتماع الرياض، وإنما قبله، أي مع مسار أستانا، وتاليًا إن هذا الانصياع لوجود منصات سبقه الانصياع لوجود كيان تفاوضي آخر، هو الفصائل العسكرية، والأخطر من هذا وذاك أن هذين التحولين لم يأتيا كنتيجة لقناعة ذاتية، وإنما كنتيجة لإملاءات خارجية، وهكذا.
هذا يجعلنا إزاء ملاحظتين: الأولى مفادها أن المعارضة السورية تقبل اليوم ما كانت رفضته بالأمس، وأنها بالتالي ستقبل في الغد ما رفضته اليوم، وهي ستجد المبرر لتغطية ذلك، كما حصل في عدد من مواقفها المضطربة أو المتقلبة، من دون إبداء أي مراجعة نقدية، أو إبداء أي نوع من تحمل المسؤولية عن هذا الموقف أو ذاك. أما الملاحظة الثانية، فهي تفيد بأن المعارضة السورية تشتغل، وكأنها منفصمة عن الواقع، وعن المعطيات المحلية والإقليمية والدولية، أي كأنها معارضة بيانات ومواقف، ليس إلا.
القصد هنا أن مع أهمية هذا الموقف أو ذاك، وضمنه الرفض أو القبول، فإن الأهم من ذلك ليس ما تقوله المعارضة وإنما ما تفعله، والمشكلة أنها في كل الأحوال لا تفعل شيئًا يذكر، أو لا تفعل شيئا يغيّر في المعادلات السائدة، لا على صعيد إعادة بناء أوضاعها، ولا على صعيد تأطير شعبها في الداخل والخارج، ولا على صعيد اجتراح معادلات أو مسارات كفاحية جديدة، بعد كل التراجعات أو الكوارث الحاصلة.
وللتذكير، فإن المعارضة رفضت بيان جنيف 2012 في حينه، بدلًا من أن تترك الأمر للنظام ليرفضه، وليواجه المجتمع الدولي، وأنها طوال الفترة الماضية جاملت (جبهة النصرة)، وأخواتها، إذ سكتت عن تصدر خطابها مشهد الثورة السورية، على حساب المقاصد الأساسية للثورة، وها هي اليوم تصر على التمسك ببيان جنيف، وتتحدث عن المخاطر التي تكبدتها الثورة من وجود (جبهة النصرة).
أيضًا، فقد حصل مثل ذلك في قصة اعتبار الائتلاف بمثابة الممثل الشرعي الوحيد للمعارضة، والهيئة كالوفد الوحيد الممثل للمعارضة في المفاوضات، وإذا بها اليوم تجلس بوصفها منصة لا أكثر. الأهم من كل ذلك أنّ المعارضة ممثلة في الائتلاف، بينما كانت تطالب بإسقاط نظام الأسد جملةً وتفصيلًا، إذا بها تقبل بالمفاوضة مع النظام، للشراكة في حكومة انتقالية، مع الاحترام للفقرة التي تتحدث عن قبول الأطراف التي لم تتلوث أياديها بالدماء من هذا النظام، إذ إن النقلة الأساسية حصلت، والباقي تفاصيل، لكل من يعرف كيف تسير المفاوضات.
وللإنصاف، فمن المفهوم أن الواقع الدولي والإقليمي يضغط على المعارضة السورية، وأن افتقاد هذه الثورة لعمقها الشعبي أثّر عليها سلبًا، بعد تشريد الملايين، لكن الفكرة هنا تكمن في ضعف إدراك هذه المعارضة لذاتها، ولدورها، ولعلاقتها مع شعبها، ومع الواقعين الإقليمي والدولي.
المشكلة أن أحدًا لم يلحظ قيام هذه المعارضة بكيانها الأساسي، أي الائتلاف، بأي مراجعة نقدية ومسؤولة لتجربتها، أو لخطاباتها، أو لطريقة عملها، كما أن أحدًا لم يلحظ أي محاولة لتطوير الائتلاف، لتعزيز مكانته التمثيلية والكفاحية، بدل الاتكاء على الخارج، أو على اعتراف هذا الخارج أو ذاك بهذا الكيان؛ لأن معطيات اليوم، قد تختلف غدًا، على ما بتنا نشهد. ويبدو أن القصة اليوم ليست قصة حوار منصات، إذ ثمة ما يفيد بأن اللحظة التي أتت بهذا الكيان أو ذاك، قد دنت لحظة بديلة عنها، لإيجاد إطارات أخرى، بغض النظر عن هذا الموقف أو ذاك؛ لأن المسألة تتعلق بالقدرة على الفعل كما تتعلق بمدى الاعتمادية، أو مدى الارتهان للخارج، بدل الارتهان للشعب ومصالحه وتطلعاته؛ وهو الأمر الذي أخفقت في امتحانه المعارضة، أو لم تدركه على نحو صحيح.
[sociallocker] [/sociallocker]