مسرح التفاوض العجائبي


بدر الدين عرودكي

خلال جلسات عُقدت بين الهيئة العليا للمفاوضات ومنصتي القاهرة وموسكو، كان موضوعها مناقشة المبادئ والترتيبات التي لا بد من التوافق عليها، قبل الذهاب  ضمن وفد واحد وموحّد للتفاوض حولها مع الطرف الخصم، وبخلاف وفدي الهيئة العليا للمفاوضات ومنصة القاهرة، لم يوافق الوفد الممثل لمنصة موسكو على المبادئ الأساس في الوضع السوري كما يرتسم الآن، وأهمها: تشكيل وفد موحد ومنسجم من الأطراف الثلاثة المشاركة، والمرجعية الدولية التي تجلت في قرارات مؤتمر جنيف ومجلس الأمن، ومسألة الإعلان الدستوري الذي ينظم المرحلة الانتقالية بانتظار وضع دستور جديد، ورحيل رأس النظام.

لا يمكن أن يُحمل مثل هذا الرفض الصارم لأوليات أي تفاوض سياسي أو غير سياسي إلا على إدراك أمر صارخ البداهة: استحالة أي عملية تفاوضية حقيقية، أو الدعوة إلى فهم ما لا يجرؤ أحد على التعبير عنه صراحة: الرضوخ، ولكن تحت عنوان التفاوض وآلياته الشكلية. بدا هذا الرفض، شكلًا وموضوعًا، كما لو كانت منصة موسكو تحمل تفويضًا من العاصمة التي تحمل اسمها بتسليم رسالة مفادها: آن الأوان كي تدركوا الواقع في حقيقته: لا مجال لفرض شروط ومواقف تتنافى مع ما آلت إليه مواقف الدول الكبرى والإقليمية كلها! وهي رسالة تلتقي مع مضمون ما أشيع أنه قول وزير الخارجية السعودي نفسه إلى رئيس هيئة المفاوضات أثناء لقائه به، قبل عقد الاجتماع المشار إليه بين الأطراف الثلاثة.

أيًا كانت التأويلات أو الرسائل المبثوثة أو المرسلة صراحة أو ضمنًا، ألا يلاحظ أي مراقب لما يجري في سورية أن ما سمي بـ “الحل السياسي” لم يكن، منذ نيِّفٍ وخمس سنوات، إلا ضربًا من سراب تجلى في تغذية أمل ما، حول موعد ما، يمكن أن يؤدي إلى ضرب من البدء في إحلال “سلام” ما، بطريقة ما، على الأرض السورية؟ وهل من جديد فعلًا في الرسالة غير المكتوبة التي ضمَّنها عبر مواقفه وفد منصة موسكو بضرب من العنجهية لا تختلف شكلًا أو مضمونًا مع مواقف مماثلة، كان رأس النظام لا يكل عن تكرارها منذ بداية الثورة السورية؟ وهل كان بوسع أي عاقل أن يصدق أن رأس النظام سيقبل التفاوض اليوم، وهو الذي رفضه مع مواطنيه بصورة مطلقة، قبل أن تتدخل الدول الكبرى والصغرى، وقبل أن تسيل قطرة دم واحدة، وبقي يراوغ ويتلاعب إلى أن أحال سورية كلها ساحة حرب وتدمير وقتل وتهجير؟

لكن السؤال الأهم: هل هي فعلًا مفاوضات حقيقية تلك التي جرت وتجري منذ نيِّف وخمس سنوات؟ وربما جاز أيضًا طرح سؤال آخر لا يقل أهمية: بين مَنْ ومَن جرت وتجري المفاوضات، حول “الحل السياسي” في سورية؟

من مؤتمر جنيف 1 في نهاية حزيران/ يونيو 2012، وصولًا إلى مؤتمر فيينا، ثم إلى صدور القرار رقم 2254، في 20 كانون الأول/ ديسمبر 2015 عن مجلس الأمن، وصولًا من بعد إلى مؤتمرات أستانا ومعها أو إلى جانبها ما بات يمكن تسميته بمسلسلي مؤتمرات جنيف وأستانا، كانت روسيا تعمل حثيثًا، وبدعم خفيٍّ من الولايات المتحدة، بدا للكثير في عهد أوباما أقرب إلى التواطؤ الفعلي، كي تسير أمور “الحل السياسي” وفق رؤيتها، آخذة بالحسبان في صوغ عناصره، وبعد تأمين مصالحها، المصالحَ الأميركية أولًا، ثم مصالح القوى الإقليمية على الأرض السورية، ولا سيما إيران وتركيا ثانيًا. رؤية بدأت عناصرها وطريقة تحقيقها على الأرض، منذ أن اقتحمت روسيا السماء السورية بطائراتها، وطفقت تقصف كل من حمل السلاح ضد النظام الأسدي من دون تمييز، وباتت اليوم واضحة لمن يريد أن يرى.

لم يكن على سبيل المثال بعض الغموض الذي شاب مقررات مؤتمر جنيف مجرد صدفة، بل استجابة لمتطلبات اللغة الدبلوماسية التي تفتح الباب واسعًا لاحتمالات مختلفة في التأويل تحول دون أي إجماع يجعل منها قابلة للتنفيذ السريع، إن توفرت الإرادة السياسية، التي لن تكفي، بطبيعة الحال، إذا ما بدأت التفسيرات المتناقضة تأخذ مجراها. كانت هنا بداية الطريق التي سمحت لروسيا في الاستحواذ شيئًا فشيئًا على السير بالحل الذي تراه في سورية وفق رؤيتها. وستتوالى مؤتمرات جنيف، جامعة بين ممثلي النظام الأسدي والمعارضة التي بدت خلالها المسافة شاسعة بين الطرفين. كان ما يهم النظام الأسدي في المقام الأول استمراره، وقد حصل عليه حين ضمنت له هذا الاستمرار روسيا وكافة الدول صاحبة القرار، منذ البداية؛ فكانت مناوراته البهلوانية ضرورية لاستهلاك الوقت؛ في حين كان ممثلو المعارضة يعملون جادّين، من دون إدراك -على ما بدا وما يزال يبدو- لطبيعة علاقات القوى التي كانت على الأرض السورية، والتي سمحت لروسيا منذ تدخلها العسكري الحاسم في تجيير مفاعيلها لحسابها كليًا. فرض هذا الوضع على إيران أن تغير استراتيجيتها على الأرض، فلا تكتفي بالقتال أو باحتلال المواقع التي تراها حيوية لأهدافها وأهداف وكيلها في لبنان فحسب، بل بتجذير وجودها سواء عن طريق شراء الأراضي، أو عن طريق اتفاقات رسمية مع النظام الأسدي.

أما المعارضة فهي منقسمة كليًا إلى معارضة سياسية موزعة بين منصات ومجالس وهيئات، ولاءُ كلٍّ منها لإحدى الجهات العربية أو الإقليمية، ولا قرارَ لأي منها على الأرض، من ناحية، وإلى معارضة عسكرية ولاؤها لمن يغذيها بالسلاح وبالمال، مقسّمة هي الأخرى إلى فصائل وجماعات لا تقبل الانحناء لأي قرار صادر عن المعارضة السياسية، من ناحية أخرى. صحيح أن الهيئة العليا للمفاوضات قد جمعت بين أطراف المعارضة السياسية والفصائل العسكرية، لكنها لم تستطع، رغم كل ما تلقته من دعم سياسي، الذهاب إلى أية مفاوضات في وفد واحد، موحّد الرؤية والكلمة. ذلك ما جعلها أقرب إلى العجز في مواجهتها خصمًا قوامه دولة كبرى ودولة إقليمية يعمل تحت إمرتهما رئيس نظام كانت لهما كل المصلحة في زرقه بكل المقويات حتى يظل واقفًا وقادرًا بفضلهما على الثبات، كي يحقق كلٌّ منهما ما يريد من أهدافه.

وحين بدأت روسيا بتحويل مجرى المفاوضات التي كانت تحت الخيمة الأممية، لتكون في أستانا ثم في جنيف تحت خيمتها ووفق رؤيتها، استطاعت أن تفرض بالتدريج، ومن دون قدرة على المقاومة من الطرف المقابل، خيوط الحل السياسي الذي تريد، في الوقت الذي لم تكن المعارضة بشقيها السياسي والعسكري قادرة على فرض شيء مما تريد.

فإذا كان مبدأ المفاوضات يقتضي وجود طرفين متنافسيْن أو خصميْن أو عدوّيْن، يملك كل منهما من القوة ما يظن أن بوسعه عن طريقها تحقيق أهدافه بطريقة أو بأخرى بأقل الخسائر الممكنة، ويعي كلٌّ منهما ضرورة الحديث مع الآخر لتحقيق ما يتطلع إليه، فأين هما الطرفان القادران على قول ما يريدان وتنفيذ ما سيلتزمان به في سلسلة المفاوضات حول “الحل السياسي” في سورية؟ هل هو النظام الأسدي الذي بات كرة تتقاذفها إيران تارة وروسيا تارة أخرى؟ أم هي المعارضات السياسية والعسكرية وقد تقاسمها هي الأخرى داعموها أو ممولوها أو، فيما يخص البعض منها، أولياء أمورها؟

ليس غريبًا إذن أن يستحيل مسرح المفاوضات الجوال بين أستانا وجنيف تجريبيًا محضًا، تحاول من خلاله روسيا بتواطؤ أميركي صريح وبدعم إيراني، ولكلٍّ مصلحته، تحديد الأدوار، وفرض الممثلين، ورسمَ الأدوار.

فمَنْ يفاوض مَنْ؟ وأين هي هذه المفاوضات في هذا المشهد العجيب؟!




المصدر