إعادة التأهيل وإعادة التدوير


سلام الكواكبي

بعد اندلاع الحرب الأهلية في إسبانيا سنة 1936، إثر انقلاب الجنرال فرانشيسكو فرانكو على الحكم الجمهوري الشرعي المنتخب ديمقراطيًا، دعمت ألمانيا النازية كما إيطاليا الفاشية، هذا الضابط الدموي الذي أوقع عشرات الآلاف من مواطنيه ضحايا لطموحه “المؤدلج”، للسيطرة على حيواتهم. فرانكو هذا، لم يحظ فقط بدعم قوى خارجية فاشية ونازية، بل حظي أيضًا بدعم من رجال الكنيسة الكاثوليكية الإسبانية، ومن وراءها الفاتيكان. كما أنه حاز على رضى أغنياء إسبانيا الإقطاعيين والصناعيين الذين وجدوا في قدومه تخليصًا لهم من الجمهوريين المقتربين أكثر من الأفكار الاشتراكية والتشاركية والعدالة الاجتماعية.

لم يتمكن فرانكو بداية من دحر قوات الجمهوريين التي تنظّمت محليًا، بالاستناد إلى قوى شعبية، قبل أن تحظى بدعم من متطوعين أتوا من خارج البلاد في فيالق أممية، غلبت عليها الميول اليسارية والمعادية للديكتاتورية العسكرية التي بدت واضحة المعالم، والتي يعتزم هذا العسكري تأسيسها في جنوب أوروبا. وقد أتى التدخل النازي الألماني والفاشي الإيطالي كترياق الحياة في جسد الجيش الإسباني المنقلب الذي تميّز بقتل وتهجير وتعذيب واعتقال أبناء جلدته. أي إنه كان نظامًا قاتلًا لشعبه، برضى الكثير من الأغنياء، وجلّ أدعياء تمثيل المرجعية الروحية.

استنجد الجمهوريون بالدول الصديقة في العالم “الحر”، وعلى رأسها فرنسا التي كانت تحكمها الجبهة الشعبية اليسارية، وعلى رأسها ليون بلوم. وظن الكثيرون أن هذه الحكومة اليسارية ستهبّ لنجدة أقرانها الإيبيريين، إلا أن الحسابات كانت خاطئة، وفضّل بلوم أن ينصاع إلى نصائح وينستون تشيرشيل الذي حذره من استفزاز النازيين والفاشيست، حلفاء فرانكو، قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، وتعزيز حظوظ الشيوعيين المدعومين من جوزيف ستالين، إن هو ساعد الجمهوريين الإسبان.

عندما وجد الجمهوريون الأبواب الديمقراطية موصدةً أمامهم؛ التفتوا إلى ستالين نفسه طالبين الدعم والمؤازرة. وفرح ستالين بهم فرحًا عظيمًا، ولكنه اشترط عليهم التموقع عقائديًا حيث أراد، فمنهم من وافق ومنهم من عارض؛ ما أدى إلى بدء تفسّخ تضامنهم الوطني وأطلق موجة من التفتت الداخلي، نجم عنها مجموعات متناحرة -سياسيًا وعسكريًا- وصلت في نهاية المطاف إلى إفشال المقاومة، تجاه الدموية الفرانكية، وأهدته انتصارًا حاسمًا سنة 1939.

عالمٌ حرٌ خان مبادئه، وترك حكومة منتخبة ديمقراطيًا تذوب وتزول، تحت وقع قصف الفاشيين والنازيين، لحسابات سياسوية قصيرة النظر، لم تمنع ستالين من التوغّل في النسيج السياسي والعسكري الإسباني، ولم تمنع من اندلاع الحرب العالمية الثانية، وأحبطت أحلام شعبٍ تم قصفه وتجويعه وتهجيره، حيث لجأ مئات الآلاف منه إلى دول الجوار، وخصوصًا فرنسا. ولم تكتف فرنسا بعدم مساعدة الجمهوريين، بل استقبلت اللاجئين منهم مع عائلاتهم في معسكرات مغلقة شبيهة بالسجون، كُتبت حولها الروايات المفجعة.

ظن المتفائلون، من الأوروبيين المعتنقين مبادئ الحرية والعدالة، أنّ زوال حُكمَي الفاشية والنازية، في نهاية الحرب العالمية الثانية، سيؤدي -لا محالة- إلى زوال ربيبتهما الإسبانية. حتى إن البعض ذهب إلى تصوّر سيناريوهات دقيقة، حول هذا التحول المرتجى في إسبانيا، نتيجة هزيمة “قوى الشر” في القارة الأوروبية؛ إلا أن حساباتهم سقطت في مستنقع الأوهام؛ إذ استطاع الجنرال فرانكو الاحتفاظ بالحكم، بيدٍ من نار ويدٍ من حديد، بل نجح في تعزيز سلطته واستبداده، من خلال بناء تحالفات مصالحية معقدة التركيب.

المجتمع الدولي، وعلى رأسه “العالم الحر” -المتشدّق بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان- والمنتصر في الحرب العالمية الثانية، لم يتأخر كثيرًا عن إعادة تأهيل هذا المستبد الإسباني المتميّز، على الرغم من أن قدومه تمّ عبر انقلاب دموي وعبر القضاء على حكم ديمقراطي وشرعي. فالحسابات السياسية التي منعت هذا العالم نفسه من دعم كفاح الجمهوريين، هي التي برزت على السطح مجددًا، لتدفع العالم الحر إلى تدوير المستبد لكي تجعل منه رئيسًا شرعيًا مقبولًا دوليًا، بل صار ذلك المستبد من دعامات هذا العالم الجديد، بقبوله فتح قواعد عسكرية أميركية على أراضيه، وتشديد الخناق على الشيوعيين لديه. صار إذًا عنصرًا مهمًا نسبيًا، مع بدء الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفيتي؛ بعد أن شكّل لهم سدًا متينًا ضد الشيوعية التي كانت تتقدم في أوروبا الغربية عبر الانتخابات، وتُشكّل خطرًا ماحقًا للتوجهات اليمينية الليبرالية التي دعمتها أميركا في أوروبا الغربية، غداة الحرب العالمية الثانية.

فرانشيسكو فرانكو حكم إسبانيا حتى مماته سنة 1975. ويرى البعض أنه أسس لاقتصاد غير مشوّه، كما يفعل المستبدون العرب. ربما كان هذا صحيحًا، فلا أحد يمكن مقارنته بالحكام العرب من جهة متلازمة الفساد والاستبداد لديهم؛ إذ إن الاستبداد الفرانكي كان سياسيًا أكثر منه فساديًا، إلا أن هذا لم يمنع من تشكيل الاقتصاد الإسباني، بحيث يفيد شبكة المصالح والعلاقات والتحالفات التي سمحت للمستبد بالبقاء طوال عقود.

كما يميل البعض الآخر إلى القول إن فرانكو نقل السلطة إلى ملك أحلّ الديمقراطية في البلاد، ولم يورّث ابنه حكمها. وفي هذا أيضًا شيء من الدقة، غير أن هذا التحليل يتجاهل التطورات الأوروبية في تلك الحقبة، والتي شهدت تغييرات ديمقراطية في البرتغال أيضًا، لم يكن بالإمكان أن تظل إسبانيا بمعزل عنها.

التاريخ لا يعيد نفسه بل يعيد إنتاج أجمل حقباته كما أقبحها.




المصدر