الغارديان: ماكرون لن يكون أبدًا منقذَ أوروبا طالما أنه يعمل لصالح الشعبويين


أحمد عيشة

كان يُنظر إلى الزعيم الفرنسي الجديد على أنه مفتاح للاتحاد الأوروبي، لكنه بدلًا من ذلك أصبح كبش فداء من أجل تجنب الانتقادات بعيدًا عن نفسه

“المشكلة الحقيقية تكمن في نطاق الإصلاحات الليبرالية الموجهة نحو السوق التي يريد ماكرون أن يقدمها، في بلد قد لا يقبلها عن طيب خاطر”. صورة: ستيفان ماهي/ وكالة حماية البيئة

عندما تسلّم السلطةَ إيمانويل ماكرون، كان يُدعى الطفل المشارك للليبرالية السياسية الأوروبية؛ أما اليوم، فهو يقوم بعملٍ ضد قوى التطرف والشعبوية. “منقذ أوروبا”! كان عنوانًا شائعًا.

كان الشعور بالراحة ممتدًا إلى أبعد من فرنسا، في عالم ترامب وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكزيت)، فقد جلب النجمُ الصاعد البالغ من العمر 39 عامًا السلوى لجميع أولئك الذين يشعرون بالقلق، إزاء حالة الديمقراطية التمثيلية، والنظام الليبرالي العالمي. لنتذكر كيف أيّد باراك أوباما حملةَ ماكرون قائلًا: “إنَّ نجاح فرنسا يهم العالم بأسره”.

مضت ثلاثة أشهر، خبا فيها بعض اللمعان. فهل يعني ذلك أن الرئيس الفرنسي “الجوبتري” [نسبة إلى “جوبتير”، كبير الآلهة عند الرومان] هو الآن بالفعل بضاعة تالفة؟ بالكاد. ولكن هناك طريقًا صعبة أمامه؛ إذ انخفضت شعبية ماكرون خلال الصيف، وهي الآن تنخفض إلى 36 في المئة، أي أقلَّ من تلك التي سجلها سلفه الباهت، فرانسوا هولاند، في المرحلة نفسها من فترة رئاسته.

نعم، ارتكب ماكرون أخطاء. وسائل الإعلام الاجتماعية مليئة بالنكات حول 26،000 يورو (24،000 جنيه) التي صرفها على عمليات تجميله منذ انتخابه. وهذا قد يكشف شيئًا عن شخصيةٍ مهووسة بالصورة على نحو واضح، وخاصة بالنظر إلى جميع أغلفة المجلات المخصصة لزوجته بريجيت، وصوره في العتاد التجريبي، أو متعلقًا بطائرة هليكوبتر فوق غواصة، على غرار جيمس بوند. ناهيك عن استخدامه (فيسبوك) للتحايل على تصفية/ فلترة وسائل الإعلام التقليدية. ومع ذلك، لا شيء من هذا يميزه كثيرًا عن السياسيين الآخرين من الجيل الأصغر سنًا.

كانت هناك أخطاءٌ أكثر خطورةً، عندما تعثر من دون داعٍ في معركة التفاخر مع رئيس أركان الجيش الذي استقال في وقت لاحقٍ. لكن المزيد من المتاعب جاء نتيجة عدم الخبرة والارتباك اللذين أظهرهما أعضاء حزبه المنتخبين حديثًا في البرلمان. قد يكون كل ذلك جزءًا من عملية التعلم، حيث إنَّ ثمن التجديد السياسي الجذري لا بدَّ أنْ يتضمن بالتأكيد التجربة والخطأ. من الصعب أنْ ترفضَ أن المشهد السياسي الفرنسي قد تم تحديثه تحديثًا كاملًا من قبل انتخابات هذا العام، وهو إنجازٌ يجب أنْ يُعزى لماكرون.

تكمن المشكلة الحقيقية في مكانٍ آخر؛ إنها في نطاق الإصلاحات الليبرالية الموجهة نحو السوق التي يريد ماكرون أنْ يُقدّمها، في بلدٍ قد لا يقبل ذلك عن طيب خاطر. ويجب أن ينطوي هذا الجهد على قدرٍ كبير من الاقتناع، إذا كان لا بدَّ من التغلب على مقاومتها. سيتم تذكير ماكرون باستمرار بأنّه حصل على 24 في المئة فقط من الأصوات في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، وليس 66 في المئة التي حصل عليها مقابل مارين لوبان، في الجولة الثانية. كان هذا المقياس الحقيقي لدوائره الانتخابية الأساسية.

ليس من قبيل المبالغة الاعتقاد -كما هو الحال في برلين- بأنَّ مستقبل أوروبا يعتمد على ما إذا كان يمكن لماكرون أنْ ينجحَ كرئيسٍ يقوم بعملية التغيير الجذري. ولكن كيف سينجز هذه المهمة؟ كانت أنشطته في الأسبوع الماضي تكشف عن ذلك، عندما عاد إلى العمل، بعد عطلةٍ قصيرة في مرسيليا مع بريجيت.

تشعر فرنسا وكأنّها تعيش على فوهة بركان، وتقوم إحدى نقابات العمال بالفعل بإعداد إضرابٍ وتظاهرات في 12 أيلول/ سبتمبر. وقد دعت الجبهة اليسارية المتطرفة التي يقودها جان لوك ميلانشون، والذي حصلت حركته فرنسا المتصلبة على ما يقرب من 20 في المئة من الأصوات في أيار/ مايو، إلى “تمرد أخلاقي”، ضد الإصلاحات التي وصفتها بأنها “انقلاب اشتراكي”.

في خضم كل هذا، توجه ماكرون إلى أوروبا الشرقية. هناك، دعا إلى تشديد التوجيهات على “العمال المسجلين” في الاتحاد الأوروبي، الذي يسمح للشركات بإرسال الموظفين للعمل مؤقتًا في الدول الأعضاء الأخرى، مع الاستمرار بدفع الفوائد والضرائب في بلدهم.

لا ينبغي أنْ يُقرأ هذا التحرك على أنَّه محاولةٌ لإعادة النظر في حرية التنقل؛ لأنه ليس كذلك. ومع ذلك، فإنَّ فريق ماكرون يوسع تكتيكه على أنّه مصممٌ لمنع حدوث ردّة فعلٍ من نوع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكزيست) ينمو فيه الغضب الشعبي ضد العمال الأجانب “المسموح لهم من دون قيود”. في الواقع، إن التغييرات التي يسعى إليها تجميليةٌ إلى حدٍّ كبير. وعلاوةً على ذلك، فإنَّ الدعم في فرنسا لحرية التنقل ما يزال مرتفعًا (79 في المئة لصالحها)، كما هو الحال في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي (81 في المئة)، كما أظهرت دراسة أخيرة لـ (يورو بارومتر).

استراتيجية ماكرون الرئيسية هي المبالغة في المعركة التي يقوم بها على المستوى الأوروبي، ضد “الإغراق الاشتراكي”، لتحييد بعض الانتقادات المحلية التي تلقاها من أجل الرغبة في تحويل سوق العمل الجامدة في فرنسا؛ وقد أدى ذلك الآن إلى وجود حالةٍ سيئة مع بولندا التي اتهمه رئيس وزرائها بالغطرسة وعدم الخبرة. حجة ماكرون هي أن “أوروبا يجب أن تحمي الحقوق الاجتماعية”، وهي صحيحة، ولكن التضحية بالاتحاد الأوروبي تجعله يخاطر بوضعه بالضبط في المكان نفسه الذي يريده السياسيون الشعبويون أنْ يرموه فيه.

في نيسان/ أبريل، دافع ماكرون عن توجيهات “العمال المسجلين”، ولكن المعارضة من مارين لوبان، وميلانشون أدت إلى دورانه إلى الخلف. في الواقع، ماكرون متأخرٌ في طرح هذه القضية، وتبحث مفوضية الاتحاد الأوروبي في كيفية إصلاحها، منذ آذار/ مارس من العام الماضي.

التحدي الرئيس الذي يواجه ماكرون هو التأكد من أنَّ إصلاحاته لا يُنظر إليها على أنّها تفكيك دولة الرفاهية، وإنما تحديثها على غرار النموذج الاسكندنافي. وكثيرًا ما يقال إنَّ التقشف يُولّد الشعبوية، ولكن نمو اليمين المتطرف في فرنسا له تفسيراتٌ أخرى. لم تشهد البلاد أي شيء يشبه التخفيضات التي عرفتها بريطانيا، خلال سنوات التحالف، ناهيك عن التاتشرية. كما أنه لم يتعرض لأيّ نوعٍ من العلاج الذي تلقته اليونان.

في فرنسا، معدلات التفاوت في الدخل والفقر أقلُّ مما هي عليه في بريطانيا وألمانيا. إنَّ ما تعانيه البلاد هو البطالة الجماعية منذ عقود، حيث تبلغ نسبتها 10 في المئة، وهي الآن نحو 21 في المئة، بين من هم في أعمار 18 إلى 24 عامًا. وخلافًا لما حدث في بريطانيا، صوَّت الشباب في فرنسا بأعدادٍ أكبر بكثير لليمين المتطرف، أكثر مما صوتوا للأحزاب اليسارية أو الليبرالية.

تولى ماكرون المعركة مع أوروبا الشرقية لإظهار أنّه إلى جانب العمال الفرنسيين، وليس مع تكنوقراط الاتحاد الأوروبي، ولم يكن من الصعب كشف درجة التلاعب؛ ففي لحظةٍ صريحة في مؤتمرٍ صحفي، يوم الأربعاء الماضي 23 آب/ أغسطس، اعترف تقريبًا بالقول: “إن مشكلات فرنسا لا علاقة لها بالعمال المسجلين”.

إذا كانت هناك دروسٌ لفرنسا، يمكن استخلاصها من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فمن المؤكّد أنّها ليست حول تعيين عمال أوروبا الشرقية كتهديدٍ للرفاهية الجماعية. أفضل ترياق للشعبوية ليس مخيفًا، المسؤولية تكمن في الأداء الاقتصادي الصحيح وتحديد المشكلات المحلية، وينبغي على ماكرون أن يخفف من المصاعب من دون رمي مزيد من الزيت على المشاعر القومية. ومن حقه أنْ يذكر بأنَّ متلازمة “السباك البولندي” لعبت دورًا في رفض الناخبين الفرنسيين لمشروع دستور الاتحاد الأوروبي في عام 2005، ولكن إعادة إحياء بعض هذه المناقشة تأتي الآن بشيءٍ من المخاطر.

يحاول ماكرون تحويل الانتباه عن المشكلات المحلية، من خلال الإشارة إلى المخاطر الخارجية، على الرغم من أنَّ العمال المسجلين يمثلون 1 في المئة فقط، من القوى العاملة في الاتحاد الأوروبي. ليس من الواضح كيف أنَّ هذا التكتيك سيساعد على زيادة طموحه لإعادة تشغيل المشروع الأوروبي، جنبًا إلى جنب مع أنجيلا ميركل.

ماكرون غير متضررٌ على نحو مؤذ بعد؛ فاقتصاد منطقة اليورو يتحسن هذه الأيام، وتدعم بعض نقابات العمال إصلاحاته، ولكن ليقود بنجاح أمته، عليه توظيف المزيد من الطاقة على الجبهة الداخلية، بدلًا من البحث عن نزاعاتٍ في الخارج.

كان أوباما على حق: “فرنسا هي اللاعب الرئيس في أوروبا”، وبدا ذلك بوضوح بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. إنَّ حالة ديمقراطيتها تهم العالم بأسره، ولكن كثيرًا ما جعلت المقارناتُ مع نابليون، ماكرونَ يشعر بالقلق، أكثر من تشجيعه على الغطرسة، ويجب أن يخوض معاركه أولًا في الداخل، قبل أي محاولةٍ لتحويل بقية القارة.

اسم المقالة الأصلي Macron will never be Europe’s saviour if he keeps playing to the populists الكاتب ناتالي نوغايريديه، Natalie Nougayrede مكان النشر وتاريخه الغارديان، The guardian، 28/8 رابط المقالة https://www.theguardian.com/commentisfree/2017/aug/28/macron-liberal-hero-europe-populist-france ترجمة أحمد عيشة


المصدر