عن علاقة الدين والدولة


آرام كرابيت

يقول الدكتور عزيز العظمة، في نص منشور له على شبكة الإنترنيت، تحت عنوان (العلمانية من منظور مختلف – الدين والدنيا في منظار التاريخ):

“لم يكن الاهتمام بالمعاملات والسياسات إضافة إلى العبادات هو وحده ما يجعل من الفكر المسيحي الفقهي والسياسي شبيهًا بالفكر الإسلامي، بل إن الآليات الذهنية المنطقية وشبه المنطقية التي استخدمت في الفقه المسيحي الغربي كانت شبيهة بآليات الفقه الإسلامي وأصوله، كالنسخ والقياس وإيلاء سلطة التفسير إلى الشارع، ثم إلى العقيدة، والأعراف. كل ذلك يشير حكمًا إلى أصول مشتركة رومانية شرقية، إضافة إلى اجتماع الدينين في إطار الديانة التوحيدية النبوية، وما تستجلبه من مفاهيم إلى السلطة والمرجعية والنص”.

من خلال هذه القراءة، يمكننا أن نتناول علاقة الدين بالدولة في القرون الوسطى، ودراسة درجة التشابه في ما يسمى بالدين الإبراهيمي أو التوحيدي: اليهودية والمسيحية والإسلام.

في الحقيقة، لهذا الدين قدرة هائلة على اقتحام المجال العام، وتناول المجتمع كمادة أولية، والاشتغال عليه، ومحاولة ربطه بسياج مفهومي واحد أو مشترك، وإحكام تماسكه على أساس عقيدي، كشرط لتكريس التجانس في البنية الدينية ذاتها. إنه يتدخل على نحو مباشر في أدق تفاصيل حياة الناس، ليس في مجال العبادات وفي قوننة العلاقات فحسب، وإنما في النظرة الشاملة إلى الكون، وفي كل شؤون المجتمع، وفق رؤيته ورؤية تنظيماته الاجتماعية.

يتدخل في الحياة الشخصية للفرد: وجوده وسلوكه وممارساته، وفي علاقة الرجل بالمرأة، وفي تنظيم علاقات الزواج والطلاق، وفي طريقة المأكل والمشرب والملبس. باختصار؛ إن الدين يتعامل مع الناس على أنهم أدوات، أشياء، يمكن تشكيلهم وصياغتهم. أي إنه يتعامل معهم على أنهم “قاصرون” بحاجة إلى إعادة إنتاج وعي خارجي، يخلصهم من محنة القصور الذاتي، بمعنى أنهم ناقصو التكوين العقلي والنفسي، ويجب إعادة تشكيلهم وفق رؤيته؛ ليكونوا على مقاسه ووفق تصورات نصوصه. ليس هذا فحسب، وإنما يفتح لهم خطَّ سير مباشر مع السماء، لتأمين راحتهم الأبدية في مكان مملوء بالأسرار والطقوس؛ فيتعلقون بالحياة ما بعد الموت وصولًا إلى الخلود، ويصادر المجال العام، وخصوصية الفرد وحريته، ويضعها في إطار علاقات عامة، ترتبط بنهج الدين وتصوراته؛ ما يخلق لدينا كتلًا بشرية نمطية، متجانسة، مستلبة، منفصلة، منغلقة عن شروط زمانها ومكانها؛ فيتعذر على الأفكار الأخرى اختراق جدار الدين أو تفكيك نصوصه التاريخية المعبأة بكتل كبيرة من المصالح والغايات والأهداف.

التعبئة المفهومية القائمة على الأوامر والنواهي تبدأ ولا تنتهي؛ ليصبح الإنسان مجرد شيء، قطعةً مشغولةً، وكأنه آلة معدنية. ولقد انفرد الدين السماوي باحتلال المجال العام في القرون الوسطى، بعد أن قضى على عصر الآلهة المتعددة الغني بالقيم الإنسانية غير المؤدلجة وبالأفكار المنفتحة، والمليء بحقول الفلسفة والبحث العلمي، والنظرة النقدية إلى الطبيعة والكون.

يمكننا طرح السؤال بصدر رحب:

لماذا نشأ الدين التوحيدي؟ ما الغاية منه؟ هل هو أزمة دولة؟ هل هو أزمة مجتمع؟ هل وصل الأمر إلى حد التفارق والقطيعة بين الدولة والمجتمع، إلى درجة أن هذا الأخير أراد أن يكون كامل الشراكة في القرارات السياسية السيادية التي يتعذر على الدولة القبول بها؟

في السياسة لا يوجد شيء بريء -كما يتصور كثيرون- إنما هناك غاية؛ فما هي غاية الدولة في التمسك بالأيديولوجيا الأحادية؟

إن الأيديولوجيا واحدة من الأقانيم الثلاثة المشكلة لجوهر الدولة ووجودها، فهي أقنوم جوهري، مثل السياسة والاقتصاد، وهي تتناغم معًا من أجل استمرار تأمين مصالح النخبة الممثلة للدولة؛ ذلك أن دور الدين لا يقتصر على العلاقة مع الدولة فقط، أو على الجانب الروحاني كما يدعي كثيرون. إنه قوة منظمة، مركبة، لديه نزوع نحو الهيمنة والسيطرة.

لقد كرّس هذا النمطُ من الفكر، على مدى عشرات القرون، نظرةً أحادية للرؤية، وألغى كل ما سبقه، ومنَع الفلسفة والعلم من البحث والتطور تحت حجج واهية، ورجَم الفن والموسيقى وكل الأعمال الإبداعية؛ ما أدّى إلى تصحرِ الحياة والدولة والمجتمع، وخلقِ إنسان ضعيف، معزول، لا يقوى على التفكير الحر، ودمّر في داخله حبّ المعرفة والبحث والاكتشاف، كما أنه خلَقَ مجتمعات نمطية، استنقاعية، تقوم على قراءة أحادية للتاريخ والمجتمع والدولة؛ فتعطلت فيها فضيلة العقل والمدارك والتفكير والإبداع، وغدا مفتقرًا إلى التوازن والتلاقح والتفاعل، وصار يقتل الإبداع.

المبدع لا يأتي من فراغ، ولا يصنعه التاريخ كوحدة مستقلة أو ذاتية صِرفة، إنما يحتاج إلى شروط موضوعية، يبني عليها رؤيته، إنه يقطف من هذه الشروط التاريخية مشروعه، ويزيد عليه. لم نسمع بالمبدعين في فترة موت الآلهة المتعددة، ولم نشهد تطورًا في الفكر، أو في قراءة في الفكر الفلسفي السابق على الدين التوحيدي إلا في بعض الهنات أو الفترات القصيرة، كما هو الحال في العصر العباسي الأول، أو من خلال بعض المبدعين المسلمين المتنطحين لحمل شعلة العلم والمعرفة، كحالة شاذة أو تمرد على شروط الواقع، وأغلب الأفكار كانت تتمحور حول “الإله الواحد” أو في تفاسير النصوص.

إن الدين التوحيدي أنتج شكلًا مسخًا للدولة، فكانت الدولة الشمولية التي غيبت الإنسان وجعلته كائنًا نكرة، تجري عليه أغلب العمليات السياسية الخارجة عنه؛ وعليه: “كان الفكر المسيحي في القرون الوسطى يتمحور حول القانون الأخلاقي الإلهي الكلي أو الأبدي، ويعمل على أن يتم إخضاع الدولة والمجتمع لخطة الله”. أي أن جميع المؤسسات التي تشكل التنظيم السياسي للمجتمع، يجب أن ترتكز على هذا النهج، بمعنى، على المجتمع أن يكون جزءًا من تراتبيةٍ تخضع للدين. لقد طوب هذا الفكر المجتمعَ والدولة، لإرادة من خارجهما، وسهر على بقائهما منفصلين، يعملان في فضاء مقيد تابع له.

إن هذا القيد التاريخي عزل التاريخَ الأوروبي والشرقي عن تاريخهما، وقيدهما؛ بعد أن كان تاريخهما واحد، ومتداخل، ومصالحهما متقاربة جدًا، وهناك مشتركات كثيرة بينهما، ثقافية ونفسية وروحية ووجودية، وتقاربٌ في مجالات الفن والإبداع، وفي التطلع إلى المستقبل، والترابط في المصاير.

إن الدين الإبراهيمي خلق أديانًا ومذاهب وطوائف، وعزَل الشعوب عن بعضها، وعمّق سوء الفهم بينهم، وأجرى قراءة مغلوطة للتاريخ، وأدخل منطقتنا وأوروبا في حمم الحروب الدينية الطويلة، وعمّق الانقسام الاجتماعي والإنساني والنفسي بينهما، وعزلهما عن بعضهما. وما زالت الحساسية الاجتماعية والسياسية والنفسية عميقة إلى اليوم، بعد أن حشرهما في ذات ليست ذاتهما، إلى أن جاء ذلك اليوم الذي تحررت فيه أوروبا من عبء المسيحية، وانفتحت على نفسها وثقافتها القديمة، وشقت طريقها نحو مستقبلها.

وآمل أن تتجه منطقتنا وأوروبا إلى التصالح التاريخي، وأن تتجاوز العقبات، وأن تعمل على بناء تلك الخصوصية القائمة على التفاعل الخلاق بينهما، كما كان في ذلك التاريخ السابق على تاريخ الأديان، والعودة إلى التداخل الحضاري بينهما.




المصدر