اللغة السينمائية في الدراما التلفزيونية (الدراما السورية نموذجًا)


فيصل الزعبي

في منتصف السبعينيات وحتى بداية الثمانينيات، تخرجت مجموعة من المخرجين الأكاديميين السوريين وعادت إلى سورية، وفي تلك الفترة، بدأ تألق البث التلفزيوني (ما قبل ظهور الستالايت) وكان المسرح السوري يرواح ما بين التجريب العشوائي والكوميديا الشعبوية السطحية التي لا تخاطب عمق العقل، بقدر ما تضحكه، على الرغم من وجود ما سمي بـ “المسرح السياسي”، لكن ذلك لم يكن منضبطًا فنيًا وجماليًا.

ورثت الدراما التلفزيونية الدراما الإذاعيةَ، لكنها كانت مصورة على نحو بدائي وغير فني. أما السينما فكانت أنموذجًا ركيكًا وتجاريًا، إذ كانت تقوم على الاعتماد على ظهور نجمة أو نجمتين، في قصة حب وقبلات وما شابه. في تلك الفترة، لم يكن ثمة معهد فني لتعليم المسرح أو السينما في سورية.

بدأ التحول، عندما عاد ثلاثة شبان في البداية، وهم: المسرحي فواز الساجر، وكان قد أنهى دراسته في الإخراج المسرحي من معهد متميز على مستوى العالم وروسيا (غيتس)، وهو المعهد الذي أورثه ستنسلافسكي لمبدعي فن المسرح. والمخرج السينمائي محمد ملص، خريج معهد (الفكيك)، وهو معهد متميز -أيضًا- على مستوى العالم وروسيا، وتخرّج فيه عمالقة السينما الروسية كـ “تاركوفسكي” وغيره الكثيرون. والمخرج السينمائي التلفزيوني هيثم حقي، من معهد (الفكيك) ذاته.

هؤلاء المخرجون الثلاث طبعوا بصمة خاصة -في ذلك الحين- على ثلاثة حقول فنية: المسرح، السينما، التلفزيون، وأجروا تحولًا فنيًا على الدراما السورية والعربية، من خلال تغيير نمط المنتج الفني -شكلًا ومحتوى- ولاحظ المتلقي حينذاك الفارقَ الفني بين منتجاتهم الفنية، وما سبقها من إنتاج فني.

هذا لا يعني أن الدراما السورية قد بدأت من عند هؤلاء المبدعين، وليس معناه أنه لا يوجد قبلهم مخرجون مجتهدون، لكن رصد اللغة السينمائية على الدراما السورية أصبح أكثر فنية وأكثر جدية، وأصبح الشكل الفني الجمالي الإبداعي أكثر وضوحًا، ويحمل في طياته الأسس الإبداعية لفن الدراما الأدائي، (في المسرح والسينما والتلفزيون).

نحن هنا معنيون بالحديث عن استخدامات اللغة السينمائية، في الدراما التلفزيونية التي بدأت تتألق، بعدما أصبح جهاز التلفزيون موجودًا داخل البيوت الشعبية، وبعدما ظهرت ثورة “الديجتال” فيما بعد.

بدأت التغيرات تظهر من خلال النصوص: (السيناريوهات)، للسينما والتلفزيون، (وهنا أتحدث عن اللغة السينمائية في الدراما التلفزيونية تحديدًا). وأصبح النص الدرامي التلفزيوني أكثر عمقًا وأكثر حرفية في بنائه، وأكثر جمالية في حكايته وحورات شخوصه، وأكثر دراسة لعمق الحدث والشخصيات، وأكثر اقترابًا من شروط الكتابة الدرامية للسينما.

بدأت اللغة السينمائية من كتابة النص، ثم انتقلت إلى لغة الإخراج السينمائي الرشيق والمدروس، من خلال بناء اللقطات الفنية والإيقاع الفني الجمالي، وتحررت الكاميرا من عبء الأستوديو، بكتلته الثقيلة غير المنضبطة جماليًا وتقنيًا، وغير المناسبة لحركة الممثل الذي كانت تحكمه ثلاث كاميرات لتصوير المشهد أو أكثر.

تطورُ تقنية الكاميرا التلفزيونية، في تلك المرحلة، وتطورُ أجهزة المونتاج والصوت والإضاءة، جعل بالإمكان الخروج خارج الأستوديو، والتشابه مع السينما في تناول الطبيعة، بكل ألوانها وتضاريسها واتساعها وصدقها؛ لذلك كانت اللغة السينمائية تحتاج إلى مخرجين سينمائيين، يجيدون التعامل مع رشاقة الكاميرا الواحدة، المتحررة للتو من سجن الأستوديو.

هذا التطور التقني كان حافزًا وحظًا أوفر للمخرجين العاملين على الدراما التلفزيونية، بلغة سينمائية جديدة، كانت تشبه الإذاعة المصورة حينذاك.

ظهور متخرجين جدد من أكاديميات سينمائية، وخريجين من المعهد العالي للفنون المسرحية، وبروز كتاب مبدعين في الدراما التلفزيونية، جعل دائرة تحقيق العمل الإبداعي ممكنة وقادرة على إنشاء التغيير الفني والجمالي للعمل الدرامي، ثم ساهم الساتلايت في جعل المتفرج العربي جزءًا من بنائية العمل الدرامي السوري المحلي، وخلق تنافسًا فنيًا وجماليًا بين الأعمال العربية، والبحث في أيها أكثر اتقانًا للغة السينمائية في الدراما التلفزيونية.

فاللغة السينمائية أنتجت خيالًا سينمائيًا ولغة بصرية، ربما جديدة على الأفلام السينمائية العربية، وأوجدت ممثلًا سينمائيًا محترفًا، يستطيع التعامل مع لغة الكاميرة الواحدة والجديدة تقنيًا، والتي تحقق المشهد مفككًا، ويكون على الممثل المحترف أن يكون قادرًا على جعل سلوك وحالة الشخصية الدرامية متصلًا؛ ما جعل العمل الدرامي التلفزيوني يؤول إلى السينما، مفارقًا النمط الإذاعي الذي تأسس ونشأ في البدايات.




المصدر