“الشاعر وجامع الهوامش” لفواز حداد الدكتاتوريات تهدم الأوطان


تهامة الجندي

“بإيعاز من اتحاد الكتاب العرب، كُلّف الشاعر مأمون الراجح بالقيام بجولة أدبية على رأس وفد من الشعراء في محافظات القطر وبلداته؛ بهدف توزيع متعة الشعر بالتساوي بين أفراد الشعب”، ومع هذه المهمة التي تبدو غريبة -في زمن القنابل المتفجرة وسياسة الأرض المحروقة- يفتتح فواز حداد روايته الجديدة (الشاعر وجامع الهوامش)، من قلب الدوائر الحكومية الرسمية، وفي ظل المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، وعلى لسان المسؤولين الموالين.

الجولة الأدبية أطلقتها وزارة الثقافة، بأمر من الحزب الحاكم وأجهزة الأمن، للإعلان عن دور الشعراء في تأييد معركة النظام ضد الجماعات الإرهابية، وعلى غير المألوف لن تكون محطتها الأولى في إحدى المدن الكبرى، بل في بلدة “مغربال” الساحلية التي تقطنها الطائفة العلوية، وتقع في منطقة تضم “الكثير من القرى المختلطة طائفيًا سنة وشيعة، مسيحيون وإسماعيليون”. أما رئيس الجولة مأمون، فهو كاتب سني مستقل، اعتزل الشعر وتفرغ لمقالات الرأي والنقد الأدبي، وبأمر من إدارة مؤسسة للبحوث الاجتماعية، تابعة للقصر الجمهوري، كُلف برئاسة الوفد، كي يتقصى بوادر الحراك الديني الذي نشأ مؤخرًا في “مغربال”.

خبر الحراك الديني الذي وصل إلى إدارة البحوث، عبر التقارير الأمنية، هو حدث ما قبل البداية، وهو المحرّك الذي ستتفرع عنه جميع الأحداث اللاحقة، وسيفتح المبنى الروائي على بداية مليئة بإشارات الاستفهام، تنسج حبكة دراماتيكية متسلسلة بمسارَين متوازيين ومتقاطعين: السلطة، والمثقف على اختلاف انتماءاته المذهبية والفكرية، بعد مضي أربعة أعوام من قيام الثورة السورية. وسوف يكون مكان تطور الأحداث وظهور معظم الشخصيات، في منطقة متخيّلة هي “مغربال” البلدة التي اتخذت الجانب المعارض بعد الحركة التصحيحية، وشهدت نموًا عمرانيًا وثقافيًا مهمًا، في مراحل سابقة، لكنها أدارت ظهرها للثورة، وأضحت رافدًا أساسيًا لفرق الدفاع المدني والشبيحة الذين استولوا على قبو مركزها الثقافي، وحوّلوه إلى مركز لتعذيب المعتقلين والمختطفين من القرى والمدن المجاورة، ومع ذلك، فإن روح المعارضة لا تزال تسري لدى الكثير من وجهائها ومثقفيها.

بحسب التقارير الأمنية والأحداث الروائية اللاحقة، فإن “حركة تصحيح الدين” بدأها لفيف من الضباط والمساعدين الأولين المتقاعدين، “عقدوا عدة اجتماعات، بعد استئذان فرع مخابرات المنطقة، ظهروا فيها بالملابس العسكرية عزلًا وبلا رتب، لئلا يظن الفرع أنهم ينوون القيام بانقلاب عسكري”. طالبوا بالعودة إلى الأصول، وإحياء شخص “الإمام المعصوم” الذي سيكون اللواء الركن المتقاعد نادر العارف، مؤسس الحركة.

في المقابل، ظهرت “حركة تصحيح التصحيح” الشبابية، بقيادة كريم رافع، الشاب المؤمن اليساري والعلماني، سليل عائلة من المشايخ، ونادت الحركة بتحديث الدين و”إبطال ألوهية الإمام علي، ومعها الإجراءات المترتبة على كونه يفوق البشر، ما يمنع تجليه الروحاني بالجسد الجسماني”، فـ “إذا كانت ألوهية الله غير مبتوت فيها بشكل نهائي؛ فألوهية البشر باطلة”. هذا ما أجبر القادة الديكتاتوريين أمثال هتلر وستالين وماوتسي تونج على أن يكونوا واقعيين، ويكفوا عن اللجوء إلى هذه الحيلة، لئلا يتعرضوا للسخرية؛ لأن قدراتهم الهائلة تظل محدودة، “فهم يُميتون، لكنهم لا يُحيون”.

وعلى الرغم من الطابع الثقافي الديني للحراك الجديد بشقيه، إلا أنه في الباطن يمس صورة الرئيس الراحل، من دون الإتيان على ذكره، ويسعى إلى فك ارتباط الطائفة عن السلطة الحاكمة، وهو ما يقلق إدارة البحوث الاجتماعية.

معظم تفاصيل الراوية وشخصياتها تأتي بضمير الغائب على لسان السارد الخارجي العليم، يقطعه حضور صوتَين يتحاوران بضمير المتكلم، عبر الرسائل النصية أو المكالمات الهاتفية عند الضرورة. صوت مأمون، وهو ينقل انطباعاته عما يجري في “مغربال” أو يستفسر عن بعض الأمور. وصوت خالد، مدير مؤسسة البحوث والمرجعية الأولى التي تصدر الأوامر، وتتحكم بسير الأحداث ومصاير الشخصيات. وعلى الرغم من المتن الروائي المتخيّل، فإن البنية السردية تمعن بأسلوبها الواقعي، ولغتها التقريرية معتمدة على تقنية التقطيع المشهدي والعناوين الفرعية المستقلة، وعلى الطباعة بخط غامق، لإبراز الرسائل المتبادلة بين مأمون وخالد.

في سياق المشاهد المنفصلة والمتصلة، تتقدم الشخصيات الروائية، وهم معارف مأمون في دمشق ومغربال، وأغلبهم من المعارضين أو الموالين المعتدلين الذين لا تروق لهم سياسة الحل الأمني، أو أولئك الذين تعرف إليهم، بحكم المهمة الموكلة إليه، وأغلبهم من رجال الأمن والشبيحة، وعبر هذه الشخصيات سوف تنفتح ملفات الثالوث المحرم، بدءًا من الزواج المختلط وتجارة الخطف والتعفيش، إلى المحاكم الميدانية والتعذيب في السجون.

مأمون المثقف العلماني السني الذي يقف على الحياد؛ لأنه لم يجرؤ على المجاهرة بتعاطفه مع الثورة إلا بين أصدقائه المقربين، والذي كان يعتقد أن نجاحه رهن بموهبته وبالحظ، اكتشف أن الإدارة هي من فتحت له الأبواب، كي يقوم لاحقًا بالمهمة الموكلة إليه. حبيبته “شذا” المسيحية المطلقة التي كان ينوي الاقتران بها، والتي بدأت الرواية باختفائها الغامض، اتضح فيما بعد أنها هجرته، وعادت إلى طليقها بحثًا عن الأمان الاجتماعي. صديقه حسين الصحفي العلوي الذي تفرغ بعد تخوينه وفصله من جريدة تشرين، لتوثيق حالات اغتصاب المعتقلين والمعتقلات في سجون النظام، اعتُقل وأُعدم ولم يُسلّم جثمانه إلى أهله إلا بعد أن دفعوا مليون ليرة. أستاذه أحمد مدرس اللغة العربية الذي يؤيد الثورة، ويتعاطف مع أسر الضحايا من كل الطوائف، تعرض للاعتقال، ومعه الشيخ السبعيني حامد الذي لا يرى فرقًا يُذكر بين المذهبين العلوي والسني وتلاحقه التهديدات. إسماعيل الباحث المرموق والمثقف الشامل الذي عينه الضباط المتقاعدون مستشارًا لهم، انتهى بين أنقاض منزله الذي داسته الجرافات بأمر من الإدارة.

ومن خلال المهمة الموكلة لمأمون، بكل أغراضها وملابساتها وأحداثها، يحاول المؤلف الدخول إلى دوائر حكومة الظل، ويستشرف ذهنية التدجين التي تصوغ ثقافة اللون الواحد والولاء المطلق لحاكم الأبد، حيث يقول خالد له عند النهايات: “النظام والرئيس متلازمان، إسقاطه إسقاط للنظام، لا تمييز بينهما، ليس لأن الرئيس لا يخطئ، بل لأننا إلى جانبه في جميع الحالات، أخطأ أم لم يخطئ، أصاب أو لم يصب. لنقل إن منصب الرئيس مقدس، هذا ما يجب أن نفهمه بعمق، نوع من التدين، والولاء المطلق”.

على هذه الأرضية، ستسعى الإدارة -منذ بداية الرواية وحتى نهايتها- إلى اللعب بكل الشخصيات، وتأجيج الخلاف بينهم والتشهير بهم، وتأديب كل من تسوّل له نفسه بالتفكير المستقل، لا فرق عندها بين موال ومعارض وصامت، من الطائفة العلوية أو من الطوائف الأخرى. إنها حرب الأرض المحروقة “لا معارضة على الإطلاق” و”المخابرات نور السماء”.

الكتاب: “الشاعر وجامع الهوامش”

المؤلف: فواز حداد

الناشر: دار الريس/ بيروت 2017.




المصدر