الرهانات الخاسرة وآثارها


جيرون

ليس جلدًا للذات كمنهج، ولا تحميل الآخر مسؤولية المآلات التي وصلنا إليها، “الخروج كالشعرة من العجين”، أو ادعاء التطهر في خضم سياسي لا يرحم، ووسط تعقيدات الحالة السورية التي فاجأت أغلبية المتنبئين والمحللين وأصحاب الاختصاص، وحتى مراكز البحث والدراسات، وتركت فعل آثارها القوية على الجميع.

كما كانت الثورة السورية مفاجأة للكثيرين من السياسيين السوريين وغيرهم، فإن خلّبية الرهانات كانت بحد ذاتها إحدى المفاجآت الكبرى، وما استتبع ذلك من تفجر الأزمة وشمولها أبعادًا خطيرة، دون أن تجد الحلول المتوقعة والطبيعية لها.

الوضع السوري، في ظل عقود حكم الفئوية والأحادية والاستبداد المكين، وما فعلته عبر نظام أمني شمولي، وما راكمته من تحولات في تركيبة السوري، وقتل اهتمامه بالشأن العام، والعمل على تكييفه وفق إرادة الحاكم بوسائل الإخضاع والترهيب، كان له أثره في منسوب توقعات قيام ثورة في سورية، وبالتالي استعداد المعارضة -على ضعفها وما فعلته العقود بها- لأن تقوم بالدور الطبيعي في الإعداد، والمشاركة الفاعلة.

من جهة أخرى، فإن حجم التدخّلات القوية في بلدان ثورات الربيع العربي، وليبيا المثال الصارخ، فتحت المجال لعقد مراهنات على فعل خارجي منتظر في سورية يُسهم في إنهاء النظام الأسدي، وانتصار الثورة بسرعة زمنية لا تترك مجالًا للخيارات الأخرى.

دلائل عديدة، ومعلومات مباشرة، أو مُسرّبة كانت تشير إلى أن تدخلًا خارجيًا ليس ببعيد سيؤدي إلى إسقاط النظام ومجيء البديل، وعلى هذا الأساس كان التسارع في تشكيل بعض الأجسام والهيئات السياسية، بخاصة المجلس الوطني، وقد عكس نظامه الداخلي موقع تلك الرهانات فيه، وظهر ذلك جليًا في موقع الرئيس ومدة الرئاسة، وإصرار البعض على جعلها شهرية، وخوض صراعات صاخبة لإقرارها كل ثلاثة أشهر، وسط زحام الآخرين باعتلاء ذلك الكرسي.

الأهم من ذلك كله، أن هذا الرهان رتّب سياسات ومواقف ألحقت أبلغ الأضرار بتلك الهيئات وبالثورة، حيث لم يجد المراهنون فائدةً من الالتفات إلى الشعب السوري الثائر، ولا الوقتَ لفعل ذلك، طالما أن التوقعات تنبئ بفعل خارجي قريب، وتولي عملية قيادة الحراك الثوري والتنسيقيات، والأشكال التي قامت وتُركت للتخبط والتنافس فيما بينها، وحينما أصبحت ظاهرة المنشقين من الضباط ثقلًا يستحق التحرك لإيجاد صيغة ناظمة كان التأجيل هو السائد، ثم الاصطدام اللاحق بإرادات إقليمية ودولية تمنع قيام جيش وطني حر موحد، حرفي تابع للقيادة السياسية، وتحت ذرائع غير مقنعة وسط السكوت على هذه المواقف الخطيرة وتداعياتها اللاحقة في انتشار الفصائلية المستقلة التابعة لهذه الجهة الممولة أو تلك، وخضوع خلفياتها المرجعية، وراياتها المرفوعة لما تريده تلك الجهات، وتنافس مشروعاتها مع الغير المنافس، أو المتصارع، وتماوجات الصراع الذي برهن أنه غير مسموح لأي طرف الحسم العسكري.

إن أهم آثار تلك المواقف انسياب القرار الوطني من بين الأصابع، ثم غيابه شبه الكلي، ثم انسحاق القرار المستقل، وإلحاق المؤسسات للإرادة الدولية التي مارست الغشّ والتضليل، وحتى التواطؤ، وظهر، تباعًا، أنه لا يوجد لديها قرار بالتدخل العسكري، وترفض الحل العسكري وإسقاط النظام بالقوة، بل أكثر من ذلك، برهنت مسارات الثورة أن الإدارة الأميركية، ترفض عامدة انتصار أحد طرفي المعادلة السورية: الثورة أو النظام، وأن استمرار النزيف السوري بمئات آلاف الضحايا، وتدمير البنى التحتية والبلاد، جزءٌ من سياسة تبدو البصمة الصهيونية فيها كبيرة.

هناك ظاهرة ملفتة في هيئات المعارضة، وهي أنها، على الرغم من الصفعات التي تلقتها، وخيبات الأمل المتلاحقة بـ “أصدقاء الشعب السوري”، وتوفر العديد من المعلومات المؤكدة عن نيّات وقرارات الدول الخارجية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية بخذلان طموحات الشعب السوري بالحرية والكرامة وإقامة النظام التعددي البديل، والكثير من التصريحات والأفعال التي تؤكد ذلك؛ إلا أنها لم تتجرّأ وتتخذ الموقف الوطني اللازم.

ربما كانت تُعبّر عن خيبات الأمل، وعن نيّات الآخرين المتضاربة مع إرادة الشعب السوري في الجلسات الخاصة، وحتى في معظم اللقاءات مع السفراء، أو المسؤولين الأجانب إلا أنها لم تشأ، أو بالأصح لم تتمكن من اتخاذ المواقف الواضحة التي تمليها الوقائع، والوطنية السورية العريقة، أكثر من ذلك، ظلّ الرهان لدى قوى نافذة في المعارضة على أميركا وإمكانية أن تقوم بدور المخلّص، وأن تُبدّل مواقفها في قادم الأيام، وحتى هذه اللحظة.

لقد صرّح السفير الأميركي السابق روبرت فورد، وكتب مرارًا، عن خذلان الإدارة الأميركية للشعب السوري، وعن وقائع فاضحة عاشها وكشف عنها، وحددها بالوقائع والأسماء إلا أن نهج المعارضة بقي على مألوفه، ينتظر الفرج من الغير، ويُعلّق دورها وفعلها على ما ستقرره.

حين وصل ترامب إلى الرئاسة تجددت الرهانات عليه، بالرغم من أن برنامجه الانتخابي، وتصريحاته، والإدارة التي اختار، ظلت غامضة جدًا وتركز صراحة على محاربة الإرهاب والقضاء عليه ولا يدانيها، أو يمتزج معها أي موضوع آخر، في حين غابت المسألة السورية تمامًا إلا مِن مَنحِ روسيا ما يشبه التفويض، وبعض التصريحات المتقطعة عن الحل السياسي، المقترن بتراجع فاقع عن الموقف من رأس النظام وكبار رموزه، ومن المدة الانتقالية ومراحلها.

اليوم، وسورية أمام استحقاقات سياسية تُرتّبها روسيا وفق رؤاها ومصالحها، تبرز الوطنية السورية كأهم الغيّاب، حيث تترتب أوضاع البلاد بعيدًا عن دور السوريين الفاعل، بما فيهم النظام المجرم، وتجري محاولات حثيثة مرفقة بالضغوط والتهديد لفرض سقف ما على المعارضة، وإشراك منصات متناقضة المواقف، وإلا فالبدائل تجهّز في المخابر الغربية.

أثبتت جميع الرهانات اليوم وهميتَها وأخطارها، ولن يكون أمام الثورة سوى الالتفات إلى قواها الذاتية، وتجميعها من خلال مجموعة من المهام البرامجية المتداخلة، وإعداد النفس لمرحلة صعبة ولضغوط وخسائر معتبرة، ما لم تملك المعارضة خطابها المستقل، وقدرات تمنحها من الرفض المقرون بالفعل، وليس مجرد الرفض الشعاري، وصخب الخواء، وإعداد النفس لمرحلة قاسية، وقد تكون طويلة نسبيًا.

نعم، سيتعامل كثير مع المعطيات وسيعدّونها أمرًا واقعًا، وستبرز دعوات التعقل والواقعية، وقد نشهد تغييرات في مواقف البعض بهذا الاتجاه، لكن الوطنية السورية العريقة، المعجونة بدماء مئات آلاف السوريين، والمعبّرة عن طموحات أغلبية السوريين في الحرية والكرامة والعدالة لن تنصاع إلا لإرادة الشعب.




المصدر