حماة المنكوبة كذاكرة لسرديّات الثورة


أيمن الشوفي

يستنجد السرد الروائي غالبًا بمقتنيات الذاكرة الجمعيّة، لا يُعيد تدوينها مجددًا، بل يستنطقها من حيث سكتت، ومثلُ هذه الاستمالة لا يمكن حذفها من منهجيّة تفكير الراوي، متى أُتيحَ له التبرّؤ من قيود الرقيب. تخرج “حماة 1982” من مغاليق الذاكرة، تناور اللحظة الراهنة في سرديات الروائيين السوريين، وتستلقي إلى جوارها، هي المدينة التي غلبت الموت، وبقيت. (اللجنة السوريّة لحقوق الإنسان قدّرت أنّ عدد ضحايا المجزرة يراوح بين 30 ألف، و40 ألف مواطن). نقرأ مرثيّتها البعيدة تلك في رواياتٍ كُتبت بعد عام 2011، استدرجتنا بسرديّاتها إلى المدينة المحروقة من سراديب اللحظة الراهنة، فسردُ الراهن متاحٌ، هيّن. الأصعب هو استمالةُ الغائب، والغياب. والذاكرة استقواءٌ دائمٌ على جولات الفقدان الماديّ والحسيّ، ولعلّ هذه المقاربة قادت السرد لدى ابتسام تريسي، في روايتها (مدن اليمام) الصادرة عن مكتبة الدار العربية للكتاب عام 2014، إلى حماة الثمانينيات، حيث تربض ذكريات البطلة أم نور في “أريحا” و”جسر الشغور”. الرواية تبدأ مع الثورة، وتجوس في الماضي على مهلها، تجمع بين اللحظتين، وكأنها تجمع بخفّة بين قتامة المجزرة، وطبيعة الضحية، في تباعدٍ زمني يصير في لغة السرد هشًا وفقاعيَّ القوام، وكأننا نعيش المجزرتين معًا، بلا ضوابط زمنيّة. يراوغنا الزمن في الصفحة 66- 67 فينكسر صنمه: (بقي الجندي مسمّرًا مكانه، لم يكن الخوف ما أوقفه هناك كصنم، راعه ما رآه من وحشيّتهم، وكاد قلبه يتوقف، حين تخيّل أن الفتاة إحدى أخواته هناك في بلده البعيد، حيث يمر النهر هادئًا وادعًا. لم ينسَ يومًا حكايات أمه عن الديكتاتور الأب، لم ينسَ ما روته له عن المجزرة التي حدثت في حماة، عن مياه النهر، عن أنين النواعير لليالٍ امتدت شهورًا وسنوات، وحملت معها كل الأصوات المستغيثة منذ بدء الدهر، وحتى الساعة تطالب بالثأر).

بينما يرتّب لنا السرد لدى فواز حدّاد، في روايته (السوريّون الأعداء) الصادرة عن دار رياض الريّس للطباعة والنشر عام 2014، التاريخ بعناية، في تقدّمٍ زمنيٍّ متسلسلِ الحلقات، نصل إلى محطاته تباعًا من بوّاباته التي نعلم. يصفعنا الدخول إلى “حماة” باكرًا في فضاء الحكاية، رائحة الموت الكثيفة ترافق المكان وشخوصه، ولا تكاد تبرحه، ونحن نعود إلى الثمانينيات مباشرة، إلى واحدة من مجازر كثيرة ألفتها “حماة”، واختبأت كنصالٍ حادة في ذاكرة من عاشوا. يسرد الراوي في الصفحة 32 تفاصيل مقتل عائلة الطبيب عدنان الراجي أحد أبطال روايته، على يد النقيب سليمان، ضابط أمن اللواء 42: (تكومت الجثث متماسكة بعضها إلى جوار بعض، الأولاد انكفؤوا حول أمهم المحتضنة رضيعها، الجد فاغر فمه، ينظر إلى السماء، يده خلف ظهره، والأخرى تمسك بالصبي، دماؤهم امتزجت في مجرى واحد، وشقّت سبيلًا لها بين الأحجار والحصى والنفايات وطلقات الرصاص الفارغة، مخلّفة لطخاتها القرمزية على الأجساد النازفة). أراد أن تكون هذه المجزرة لحظةً مفصليّة في بناء الحبكة لا تفارقها، وكثافةً وجدانيّة لا يمكن تفادي مرارتها.

جهنميّة القتل والفناء تعشعش في أحياء “حماة”، تكاد لا تغادرها أيّام حصارها وقصفها، مطلع الثمانينيات، تلبث زمنًا لتخرج من وباء الصمت، تستعين برواياتٍ كُتبت مؤخرًا، بعد ثورة عام 2011، تستقوي بها لتعالج آثار النسيان. الموت العابر للتاريخ لا يتوقف عن الصراخ، يظلُّ يذكّر الكائن البشريّ برخاوة خصائصه، فلا تجد “تريسي” فظاظةً في أن تعيدنا إلى ذاكرة بطلتها أم نور مرارًا. ذاكرة تنبش الوجع ولا تتوقف عن ذِكره في سردٍ يتعاقب عليه الرواة. تحكي لنا محمود “الدرويش”، كجزء من ذاكرة المجزرة في الثمانينيات. تقدّمه في الصفحة 79 بإدراكه البسيط لفداحة صنوف الموت المتربّص بهم: (لم يكن محمود يعرف قائد تلك القوات، ولا الهدف من انتشارها حول معمل السكّر، وعلى طريق “حمام الشيخ عيسى”، وفي المدرسة الثانوية، وفي ساحة البريد، لكنه استشعر بحواسه أن الأمر خطير ومخيف، وأن هناك قوى خفيّة يمكنها أن ترعبه أكثر من القبر المعتم، وقطعة القماش البيضاء)، ثم تنعطف عائدةً بنا إلى الحاضر، تتقاسم مع حنظلة (أحد أبطال روايتها) الحديث عن مجزرةٍ جديدة، وكأن يد الموت تستنسخ مجزرة “حماة” الأولى في مجزرةٍ أخرى، أو ربما في مجازرٍ عاشتها يوميّات الثورة. يروي حنظلة ما رآه من النقيب خضر في الصفحة 109: (ابتعدَ عن الجثث، وسار حتى وصل الشارع العام. هناك قنص سيّارة يقودها شاب ومعه فتاة، أوقف السيارة، أنزل الشاب منها، وأرداه قتيلًا برصاصة في الرأس، سحب الفتاة من شعرها، وأخرجها من السيارة ورماها أرضًا، عرّاها بعنف، وأطفأ كل ما يعتمل بصدره من حقد في جسدها، عندما انتهى خلع إطار السيارة وجلس عليه، وراح يتأملها وهو يدخّن السجائر).

رصد كثافة الموت، وفداحة طبيعة المجزرة تتشابه في سرديات الثورة السوريّة التي تحدّثت عن هلاك حماة في الثمانينيات. لا نتردّد في فهم ذلك، ونحن نعبر سوداويّة المشهد الذي رصده لنا حداد في سرديّته “السوريون الأعداء”، حين زار بطله القاضي سليم الراجي “حماة” يتقصّى عن أخبار أخيه وعائلته، تلك المغامرة المحفوفة باحتمالاتٍ قاتمة، بدأت ملامحها في الصفحة 113: (ليتني لم أتابع طريقي إلى حماة، أصابني القنوط لحظة وصولي إليها. حماة غارقة في الحداد، يلفها السكون، والرعب يسري فيها. المدينة المنكوبة، أعاد الدمار تشكيل معالمها المحترقة على وقع ما أصابها من أهوال. نهر العاصي، هناك من رآه مقبرة تطفو على صفحته جثث القتلى بالعشرات).

“حماة” المجزرة صورةٌ قاسيةُ التكوين، يصعب رثاؤها في صنوف السرد الروائي. يمكن فقط التدليلُ على موضعها في تاريخ البلاد الأسود، واسترجاع سيرة وجعها. يصل بنا حدّاد في الصفحة 115 إلى صورٍ مفزعة عن الموت، والفقدان: (لا يمكن تصوّر الفظائع المرتكبة؛ امرأة خبّأت جثة زوجها الميت أسبوعًا كاملًا، لم تستطع الخروج من بيتها، فارتج عقلها. عجوز أصيب بالجنون، بعدما أعدموا أبناءه السبعة أمام عينيه، وهو يرجوهم أن يقتلوه معهم. زوجات قُتل رجالهن أمام بيوتهم، ولم يسمحوا لهن بدفنهم. بقيت الجثث عشرة أيام تتفسخ، وتنبعث منها الروائح الكريهة).

مجزرة حماة لا تنتحبُ فقط فوق صدور الروائيين السوريين، وهم يحثّون أقلامهم لفك طلاسم أزمتهم الوجودية، بعدما عاشوا حكم الحزب الواحد، والفرد الواحد عقودًا مديدة من الزمن. نلمح “حماة” صورةً نمطيّة للمجزرة الكاملة الأركان في سردياتِ غير السوريين، نقرؤها مجددًا، خلال تتبّع الكاتب السعودي محمد علون لمخطوط ابن عربي، في روايته الأخيرة (موت صغير) الصادرة عن دار الساقي عام 2016، فالمخطوط يصل في الصفحة 539 إلى حماة العام 1982: (المدينة محروقة، لا وصف أدّق من ذلك ولا أكفى، البيوت والشوارع والمساجد والميادين والأسواق، وكذلك القلوب والأرواح والصدور والجثث والأنفاس، كل شيء احترق، في سبعة وعشرين يومًا، نزل فيها الشياطين على مدينتنا، وكأنهم يحملون في صدورهم مليون عام من الغلّ، منذ أبى إبليس أن يسجد لآدم. شياطين حديثة ذوو تنظيمات يتسمّون بأسماء غير أسماء الشياطين: سرايا الدفاع، لواء 47 دبابات، لواء 21 ميكانيك، فوج 21 إنزال جوّي، قوات خاصة، كلهم شياطين في أطياف مختلفة من الخاكي، وآخرون في ملابس مدنية، دخلوا المدينة، ولا هدف لهم إلا القتل، القتل فقط).

تتقصّى “حماة” عن وجع اللحظة المعاصرة، تهتصره وكأنه بلاءٌ يخصّها؛ فتبدو في سردياتٍ عديدة مثل شاخصةٍ مروريّة، تدلّ على ضرورة الانعطاف ناحيتها، أو التوقّف عندها، أو تمنع تجاوزها. حتى وإن كان الطريق معبّدًا بعشرات المجازر الجديدة.




المصدر