ذاكرتنا ثروتنا


دمر السليمان

لأنّ ذاكرتنا هي ثروتنا، والدليل الوحيد على كوننا بشرًا؛ علينا أن نحتفي بها وأن ندونها، وإلا فماذا يعني الكلام! وماذا تعني الكتابة! القدرة على تدوين تفاصيل الذاكرة هي الدليل على وجودنا، هي الأداة الوحيدة المتاحة التي تقول بصدق للقادمين: كونوا أجمل وكونوا أفضل. هي الدليل على أن البشر يسيرون نحو الأمام، وأنهم قابلون للتطور. لأن الذاكرة هي الحل وهي المفتاح؛ فعلينا ألا ننسى!

الذاكرة هي التفاصيل، هي نحن، ولأن ذاكرة جيلي بأكمله مغتصبة، غائمة، نعبّر عنها مجازًا، بِطاقة شعرية صرفة؛ فلا بد لنا من تدوينها، لكي ندفنها بشكل لائق.. لا بد من تدوينها، لكي نتحرر منها.. لا بد من تدوينها، لكي يصبح حاضرنا معقولًا.. لا بد من تدوينها.

البارحة، بسبب حالة أرق إصابتي، بدأت أتصفح حسابي على (فيسبوك)، عندما شدني فيديو من قناة (ناشيونال جيوغرافي) لمطاردة أسد لغزال. بعد أن انتهى الأسد من وجبته تقدمت الضباع لتنال نصيبها من الطريدة، ولتباشر بتحطيم العظام بين فكيها القويين. لا أدري كيف أثار المشهد في ذاكرتي تلك العبارة (اللحم لكم والعظام لنا)، العبارة الأثيرة التي كانت تنتهي بها أغلب مراجعات أولياء أمور الطلاب في مدارسنا، تلك المراجعات التي كانت تتم بطريقة استدعاءات أفرع الأمن، عند ارتكاب أحد الطلاب لمخالفة ما، تهدد الأمن القومي للمدرسة، كأن يتجرأ الطالب على نسيان وضع القبعة العسكرية، حين أداء تحية العلم مثلًا!.

العبارة ذاتها اقترنت لدي بمحلّ اللحام، حيث حضرت في أحد الأيام اتفاقًا بين اللحام وأحد جيراننا على تقصيب خروف، وأفضى الاتفاق إلى حصول اللحام على فروة الذبيحة، مقابل عمله: (الذبيحة لك والفروة لي)، العبارة التي أطلقها اللحام ضاحكًا بأعلى صوته، والتي كان لها ذلك الوقع المرعب على طفلٍ، كان قد حضر العديد من المواقف التي أفضت إلى خروج الأب أو الأم مهانين من مكتب مدير المدرسة، وهما يرددان تلك العبارة.

بدأتُ بمحاولة استذكار الأماكن التي سمعت فيها هذه العبارة، ليلمع في رأسي وجه صديقي الشاحب في المستشفى والدماء تسيل من يده، جراء إصابته بآلة قص الحجر ونحن نعمل، تذكرت الصمت الذي ساد، بعد أن ركلت الوعاء المعدني الذي كانت قد وضعته الممرضة كي لا تلوث أرضية حجرة الطوارئ، إلى أن قطعه صوت أحد رجال دورية الشرطة، وهو ينهي حديثًا مع أحدهم هناك (اللحم لكم والعظام لنا) لكي يتفرغ لي، ويطرح علي السؤال الآتي (أين تظن نفسك؟). في الحقيقة لم تسعفني البديهة، ولا وضع صديقي الذي بدا بفقدان وعيه، ولا الوجوه الشاحبة والأعين المقعرة في تلك الصالة التي شخصت نحوي، لكي أجيبه الجواب الصحيح؛ الحدث الذي أفضى بي إلى نظارة قسم الشرطة القريب من المستشفى، حيث صادفت أحد الأشخاص الذي كان يصرخ بأعلى صوته متهمًا مدير المستشفى والكادر الطبي، بسرقة جرعات الدواء الكيماوي المخصصة لأمه التي تعاني من السرطان، واستمرّ بصراخه الممزوج ببكائه طوال الليل، حيث لم يجرؤ رجال الشرطة على إسكاته، ولترسم المؤسسات العامة في بلدي دوامات وأعاصير في رأسي: شعبة التجنيد، دائرة النفوس، وزارة التعليم العالي، وزارة التربية، الجامعة، مديرية التربية، الهجرة والجوازات، المعبر الحدودي.. إلخ.

حتى في منازلنا، كانت تلك العبارة تجتاح مكانًا في فض النزاعات ما بين أفراد الأسرة الواحدة، أتذكر وجه جارتنا الأربعيني، وهي تصرخ خارجة من منزلها، في إثر خلاف بينها وبين زوجها: (أخذتني لحمًا ورميتني عظمًا).

المفاجأة أنني لكثرة عدد تلك المرات لم أستطع حصرها، ولتكتمل الدهشة وجدت أن تلك العبارة، في كلّ الأحداث التي تذكرتها، كانت هي الخاتمة التي تنهي الحديث، وتوضح طبيعة التفاهم على مسألة النقاش (اللحم لكم والعظام لنا).

واليوم أتساءل معكم: من الذي جعل بلدَنا مسلخًا كبيرًا، لتُمرر الصفقات على لحمنا وعظامنا، ألم تكن دماء صديقي التي ملأت جدران حجرة الطوارئ، في ذلك اليوم، دليلًا على ذلك، دليلًا على أن القادم أعظم؟!




المصدر