من يتعايش مع الأسد


عبد الإله فهد

تعتمد السياسة الداخلية والخارجية للعالم المتحضر والدول الكبرى، على خطط واستراتيجيات متوسطة وطويلة الأجل، تصدر عن دوائر صنع القرار المُركّبة لهذه الدول، وهي لا تتعلق بالانتخابات الدورية، ولا يستطيع من أتى بالانتخابات العمل بعيدًا عن تلك السياسات والاستراتيجيات، إلا ضمن هامش معين.

بريطانيا -مثلًا- لم تستطع الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، إلا بعد دراسات مُعمّقة، من حيث السلبيات والإيجابيات، وقد استغرقت هذه الدراسات مدة طويلة، ربما تصل إلى سنوات؛ ليُطرح المشروع على التصويت العام ويأخذ الموافقة، ومن ثم المصادقة عليه من قبل الحكومة.

كذلك الأمر بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية، عندما أتى الرئيس دونالد ترامب وبدأ بالعمل بعيدًا عن السياسة العامة للدولة، فواجهته موجة من الغضب والعصيان في تنفيذ القرارات والتراجع عنها؛ لأنها تخالف السياسة العامة للدولة.

في تركيا، وعلى الرغم من نجاح حزب العدالة والتنمية لعدة دورات في الانتخابات، والرضى العام من الشارع التركي، بفضل التطور الملحوظ والتحسّن في شتى المجالات؛ إلا أن تعديل الدستور أخذ سنوات من الدراسة والبحث والحوار، في مراكز الدراسات وصُنع القرار، قبل أن يصل إلى الاستفتاء العام.

على الصعيد الخارجي والتعاطي مع ثورات الربيع العربي في عام 2011، والمفاجأة الكبرى للدول والعالم المتحضر بهذا الحراك غير المتوقع؛ اتخذت الكثير من الدول مواقف متقدمة ومعلنة بالوقوف مع متطلبات الشعوب الثائرة في العدالة والكرامة، ودعمت هذه المطالب بأكثر من اتجاه، وبدأت بعض الأنظمة بالتفكك بشكل متسارع، وانتهت في بعض دول الربيع العربي بهروب البعض وترك البعض للسلطة، وقُتل العقيد معمر القذافي على أيدي الثوار بغطاء دولي.

في سورية، ومع الاعتراف بالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة في مراكش، من قِبَل أكثر من مئة وعشرون دولة، بأنه الممثل الشرعي للشعب السوري، وتتالي الاعترافات من قبل الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي ومجلس التعاون الخليجي والجمعية العمومية للأمم المتحدة، والتصريحات التي صدرت من زعماء العالم في ذلك الحين، وكان أغلبها واضحًا بأن الأسد قاتلٌ وفاقد للشرعية، وشعارات وتصريحات كثيرة غير ذلك شكّلت انعطافة كبيرة في مسيرة الثورة السورية، حيث أيقن الشعب السوري أن العالم المتحضر يقف معه في الوصول إلى العدالة والكرامة والخلاص من الاستبداد، ولن يتخلى عنه، وأن نظام الأسد أصبح من الماضي.

جاءت القرارات الأممية 2118 و2254 بنقل السلطة عن طريق هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات، وإزاحة الأسد عن الحكم؛ لتُشكّل تطورًا آخر في دعم الشعب السوري، وسرعان ما زادت إيران وميليشياتها من حجم وشكل تدخلها لعدم سقوط نظام الأسد ومساعدته بالقتل والاعتقال والاغتصاب والحصار، لكنها لم تُفلح في ذلك، وانهارت الجهود الإيرانية بالحفاظ على بقائه، حينئذ تدخلت روسيا بأسطولها الجوي والبحري المتطور، وقد صرح في ذلك الوقت وزيرُ الخارجية الروسي، بأنه لولا التدخل الروسي؛ لسقطت دمشق في غضون أسبوع.

التدخل الروسي جعل نظام الأسد يزداد وحشية وإجرامًا، بالاعتقال والقتل، باستخدام جميع أنواع الأسلحة حتى المحظورة والمحرمة دوليًا (الكيماوي والفوسفوري والعنقودي) وحتى صواريخ السكود والطائرات الحربية التي دمّرت المدن على رؤوس ساكنيها، بإجرام لم يسبق له مثيل، منذ الحرب العالمية الثانية.

المواقف الدولية من دعم الشعب السوري لتحقيق مطالبه لم تتغير، ومن غير الممكن أن تتغير، بعد أن أوغل نظام الأسد بالقتل والتدمير والتهجير ونشر الإرهاب بالمنطقة، فالحكومة البريطانية الحالية أكّدت موقفها بالانتقال السياسي، وتبنت الرؤية السياسية للحل الذي قدّمتها الهيئة العليا للمفاوضات في مؤتمر لندن الذي عُقد لهذا الأمر، بطلب ودعم رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي ووزير خارجيتها بوريس جونسون، أمّا الحكومة الأميركية الحالية فقد أكدت على لسان الرئيس دونالد ترامب أنّ نظام الاسد انتهى، وقد وصف الرئيس ترامب الأسد بـ “الحيوان”، بينما الحكومة الفرنسية فقد أكدت، في كلمة الرئيس إيمانويل ماكرون، أن الأسد عدو للشعب السوري. ودول المنطقة كالمملكة العربية السعودية التي يؤكّد وزير خارجيتها عادل الجبير، في جميع المؤتمرات، أن الأسد سيرحل بالمفاوضات أو بالسلاح.

الحكومة التركية كذلك الأمر لم تُغيّر موقفها، وتؤكد أن الانتقال السياسي بلا الأسد هو الحل لسورية والمنطقة، وأنه لن يكون هناك أي حل أو استقرار في سورية والمنطقة، مع بقاء الأسد.

بعد هذا الإجرام الذي وصفه الكثير من السياسيين والمحللين السياسيين والمؤرخين وواضعي الخطط الاستراتيجية للدول، بأنه الأسوأ منذ الحرب العالمية الثانية، وثبات الشعب السوري الذي قدّم الغالي والنفيس في سبيل الوصول إلى دولة العدالة والكرامة والمساواة؛ لا يمكن للسوريين خاصةً والدول الإقليمية والمجتمع الدولي عامةً، القبول ببقاء نظام الأسد الذي أجرم ونكّل بالشعب السوري، وجعل سورية دولة في نهاية التصنيف الدولي، وجلب التهديد للأمن والسلم الدوليين، ونَشَر الإرهاب في المنطقة، وانكشف أمام العالم المتحضر بأكمله، بأنه ديكتاتور العصر؛ ما جعل العالم بأسره يُصرّ على إحالته إلى المحاكم الدولية لينال جزاءه، والتسليم بأنه من غير الممكن التعايش معه.




المصدر