الظلّ الأحمر


جهاد عبيد

“تَشَاهد يا ابني”.

لم تكن في عجلة من أمرها ذاك النهار، أكملت معراجها ببطء، وتوقفت تستريح استعدادًا للهبوط، فأطالت مكوثها أكثر من المعتاد. تكاسلًا، بعد سباتها شتاء طويلًا، تعبًا، أو ربما كي تشهد الشمس أن الرصاص الحي أعدلُ من أن يميّز بين السوريين. تُهمة البحث عن الحياة، مسعورة، تجوب شوارع دمشق الفارغة، إلا من الريح، تقلّبها كرغيف خبز ساخن، تنقّب بلاط أرصفتها المهجورة، تنكش عن فريسة ضلّت طريقًا ازداد اتساعًا وقِصرًا عن ذي قبل. المضيّ عبرها والخطو عليها بلا مبرر مقنع وحجّة لا تقبل النقض، ليس واجبًا أو ضرورة أو حتى حماقة، وليس انتحارًا، أبدًا.. إنها مجرّد الرغبة الجامحة بالتطهّر المطلق، تيممًا أو وُضوءًا، صراخًا.. أو موتًا.

“تَشاهَد يا ابني”.

كمطر مكمور بغيمة وانفلت، تقاطرت القلوب والأرواح والعقول والحناجر، أغرقت فضاء دمشق الفسيح الذي كان خاويًا مهجورًا قبل برهة؛ فامتلأ بالأنفاس.

كيف تجاوزت جميع هذه الإرادات ذاك الفراغ الموحش والصمت كله، كيف عبرت اصفرار الرصيف وسواد الطريق وعزلته وأشباحه وصولًا إلى هنا؟! كانت الإجابة أبهى من هذا السؤال.. فأسقطته.

بدأ ينتظم النبض، ويتسق خفقان القلوب، نبتت للأرواح أجنحة، وتكوّرت العقول وارتصفت في حبّة بَرَد بيضاء مثالية التبلور، التفّت الحناجر كزوبعة إعصار عاتٍ مزّق صفيح الخوف، فانطلق الصوت عظيمًا نحو تلك الشمس.. وتصدّع الصمت: واحد واحد واحد… مادَ العرشُ.

“تشَاهدْ يا ابني”.

مسامير حارّة، انطلقت تحاول تثبيت قوائم المُلك الذي اختل، تساقطت حبات التوت لتصبغ كل المدينة بالأرجواني والأسود. غير أن اختلاله استمر ثم … هوى، فاستقرّ أخيرًا: عرش قشّ يطفو على سطح بركة دم.

الشمس تحاول جاهدةً تفصيل ظل الفتى على الرصيف الضيق، لكن الظل امتدّ، وانسكب خارج حدود الجسد باسترخاء وهدوء، وكأنه يستريح… كان ظله أحمر.

“تشاهد يا ابني”..

ابتسم الفتى، ونظر في عين الشمس، ثم رفع الظلُّ الأحمر يده على مهل حتى استقرت خلف عنق الشيخ الجليل، وهمس: “أنا مسيحي، يا شيخ”.




المصدر