جون ستيوارت ميل (1806 – 1873)


محمد محمد

يُعدّ المفكر الاقتصادي والفيلسوف الإنجليزي جون ستـيوارت ميل (John Stuart Mill) أحدَ رواد الفكر الاقتصادي الكلاسيكي، كان إنجازه الأهم في الاقتصاد السياسي وليس في الفلسفة، لكنه بنى فكره الاقتصادي على أسس فلسفية، تهدف إلى عالم تحكمه رؤية أخلاقية واجتماعية. انتهج المنطق الاستقرائي، والفلسفة التجريبية ضد النزعة اليقينية، وكان من دعاة مذهب المنفعة ومن رواد الفلسفة الليبرالية، ودافع عن الحرية الفردية والمساواة والديمقراطية وحقوق المرأة، وهاجم التعصب الديني، وطالب بالتعليم الإلزامي.

أسّس ستيوارت ميل جمعيةَ (مذهب المنفعة/ Utilitarian Society) عام 1822. من أهم مؤلفاته كتابه الشهير (مبادئ الاقتصاد السياسي/ (Principles of Political Economy عام 1848، وكتاب (عن الحرية/ On Liberty) عام 1859، ومقالته (استعباد النساء/ The Subjection of Women)، عام 1869.

درس الاقتصاد السياسي في سن مبكر، وبشكل خاص “ثروة الأمم” لآدم سميث، و”مبادئ الاقتصاد السياسي والضرائب” لديفيد ريكاردو. وألّف كتابًا من أهم كتب الاقتصاد والاقتصاد السياسي في منتصف القرن التاسع عشر، “مبادئ الاقتصاد السياسي” في عام غليان القارة الأوروبية بثورات 1848، الثورات التي حركتها المصالح الاقتصادية المباشرة، وليست الأيديولوجيات التي أشعلت الثورات السابقة. أثار “ميل” جدلًا حوله بمحاولته الجمع بين نموذج من “اشتراكية مثالية” والتمسك بحرية الفرد والديمقراطية وحرية المبادرة والمنافسة. فمن جهة أولى، عارض مفهوم “الملكية الخاصة”، وعدّها “تمركزًا للثروة” غير شرعي ولا مبرر له، لكنه لم يطالب بإلغائها بل اكتفى برفض فكرة “توريثها”، وبإخضاعها لمقتضيات مصلحة المجتمع. ورأى أن الأرض “هبة” من الطبيعة، وليست نتاج “عمل”؛ لذلك لا يمكن لأي فرد أن يمتلكها إلا قسرًا وبالتسلط. ودافع عن توزيع الأراضي لتأمين عدالة أفضل، مبررًا تدخل الدولة إذا اقتضى الأمر ذلك. ومن جهة ثانية، كان يخشى من أن تُحكَم “الدولة” من قبل السلطة التنفيذية حكمًا مُطلقًا، فـ “تمسخ مواطنيها” وتجعلهم متساوين في “العبودية”. كما دافع بشدة عن حرية المنافسة قائلًا: “إن كل ما يُقيّد المنافسة الحرة هو الشر المطلق، وكل ما يُطلقها هو الخير العميم”؛ لذا كان من الطبيعي ألّا يُعترَف بـ “ميل” بوصفه “اشتراكيًا” من قبل اشتراكيين راديكاليين معاصرين له، من أمثال لويس بلانكي المنادي بالعنف وسيلة لتحقيق الاشتراكية والفوضوي بيير برودون. ونُظر إليه بوصفه “ليبراليًا إصلاحيًا وديعًا” أو “بورجوازيًا راديكاليًا”. بينما عدّه الاشتراكيون الفابيون، أسلاف حزب العمال البريطاني الحالي، أبًا روحيًا لهم.

ركّز ستيوارت ميل على “العمل” و”الأرض”، من بين عوامل الإنتاج، مُعتبرًا ثالثهما، “رأس المال”، مجرد تراكم لعمل سابق مُتجسّد بالأموال. هذه الفكرة التي سيعتمدها كارل ماركس ويتوسع بها، قادت “ميل” إلى رؤية أن “معدل التراكم الرأسمالي” يتوقف على مدى توظيف “قوة العمل” بشكل مُنتج. أما “الأرباح” التي تُكتسب من خلال توظيف “العمالة غير المنتجة” فهي تحويل لـ “الدخل” وليست خلقًا له؛ لذا فإن “الأرباح” تتناسب عكسًا مع “تكلفة قوة العمل”، وإن “معدل الربح” يمثل النسبة ما بين “الأرباح” و”الأجور”. فعندما ترتفع “الأرباح” تنخفض “الأجور” ويزيد “معدل الربح”، وهذا بدوره يؤدي إلى زيادة “التكوين الرأسمالي”، كذلك تؤدي الرغبة في “الادخار” إلى زيادة “معدل التكوين الرأسمالي”، ونادى بتوزيع الإنتاج على نحو عادل، بين مختلف الطبقات الاجتماعية، وتحسين أحوال العمال.

في التجارة الدولية تابع “ميل” نظريتي “آدم سميث” و”ديفيد ريكاردو” مُضيفًا ومُعارضًا. فبعد أن رأى “سميث” أن جميع الدول مُلزمة بالتبادل الحر، وأن على الدولة شراء كل سلعة يُنتجها المُنتج الأجنبي بكلفة أقل من المُنتج المحلي، وأن الدولة التي تبيع سلعًا بكلفة أقل من الدول الأخرى تملك “امتيازًا مطلقًا” لهذه السلع؛ لذا يجب على كل دولة أن تختص في إنتاج السلعة التي تمتلك فيها “امتيازًا مطلقًا”، وتشتري السلع الأخرى، أي أنه استثنى الدول التي لا تمتلك “الميزة المطلقة” من التبادل التجاري العالمي. جاء “ريكاردو” ووضع نظرية “الميّزة النسبية” التي لا تستثني أي دولة من التبادل الحر، موضحًا أن من مصلحة كل بلد أن يتخصص في إنتاج السلع التي لا تكلفه كثيرًا مقارنة بباقي السلع التي ينتجها، حتى وإن كانت بلدان أخرى في العالم تستطيع إنتاج هذه السلع بتكلفة أقل منه، ويتحتم على كل بلد استيراد السلع التي يتنازل عن إنتاجها من باقي الدول التي تملك “ميّزة نسبية” في إنتاجها. وبذلك تجاوز ريكاردو قصور نظرية “الميّزة المطلقة” عند سميث، لأنها لا تضمن مكانًا في التجارة الدولية للدول التي لا تملك أي ميّزة مطلقة في إنتاج أي سلعة. وتتلخص مأثرة “ميل” بتركيزه على إسناد “الميزة” النسبية إلى “ميزة كفاءة العمل” النسبية، أي إنتاجية العمل، في كل من الدولتين بدلًا من التركيز على “تكلفة العمل” النسبية”، كما فعل ريكاردو.

بنى جون ستيوارت ميل قناعاته الفلسفية على أفكار “مذهب المنفعة” الذي أسّسه الفيلسوف الإنجليزي غيريمي بنثام، وهو مذهب في فلسفة الأخلاق يبني فكرة الخير والشر والتمييز بين الصواب والخطأ انطلاقًا من مآلات الأفعال وعواقبها، من حيث المنفعة والمتعة التي يحققانها. وعلى الرغم من أن “ميل” ورث تأثره بالمذهب النفعي عن أبيه، الذي كان يرى في بنثام أبًا روحيًا له من الناحية الفكرية، فإنه لم يسر على خطى والده بتبني المذهب بشكل جامد بل أعاد النظر به ليتماشى مع القواعد الأخلاقية السائدة بين الناس. قام “ميل” بمراجعة أطروحات مذهب المنفعة بطريقة نقدية، وعمل على التمييز بين “المتع”، وإخضاعها لـ “قيم عليا”، فالسعادة لا تتحقّق فقط عبر حياة ذات مُتَع جسدية ودون آلام، بل أيضًا بالوصول إلى مُتَع عليا، حتى لو كلّفت آلامًا أو تنازلات عن مُتَع أدنى. وعبّر عن فكرته هذه بقوله: “من الأفضل للمرء أن يكون سقراطًا مستاءً من أن يكون خنزيرًا سعيدًا”. وأكّد أن مجتمعًا يسعى أفراده لإحراز المُتَع العليا هو أكثر تقدمًا في حضارته، ورأى أن الحرّيّة الاجتماعية شرط أساس لتكريس ثقافة المُتَع العليا، حيث إن المجتمع الحرّ هو وحده القادر على أن يكون متحضرًا، كذلك إمكانية البشر على الحياة المشتركة بعدالة تتناسب طردًا مع سعيهم لإحراز مُتَع عليا أكثر من المُتَع الأدنى. شكّلت مراجعة “ميل” النقدية تغييرات كبيرة في جوهر النظرية النفعية، وأبقى على أن “الفكرة -فرديّةً كانت أم مجتمعيةً- تكون صالحة بقدر نفعها في إنجاز أكبر قدر من السعادة، لأكبر عدد من البشر”.

كتاب “ميل” “عن الحرية On Liberty” المنشور عام 1859، هو بحث فلسفي في أشكال “الحرية” وغاياتها، يُطبّق فيه “نظامه الأخلاقي النفعي”، على المجتمع والدولة، ويضع معايير العلاقة بين السلطة والحرية، وقد انطلق من أهمية “الفردانية” بوصفها شرطًا أساسيًا لأقصى درجات “المتع”، أعلى مراحل النفعية. إن “منفعة الفرد” لا تتحقق إلا بضمان حريته؛ لذلك طالب بتوفير الحرية للفرد وفتح أوسع مجال أمامه لتنمية ملكاته ومواهبه، ويرتقي المجتمع بمقدار ما يتطور أفراده بحرية واستقلال، ولا ينبغي أن يحد من حرية الفرد سوى الإضرار بالآخرين وإيذائهم. كما تأثّر “ميل” بمبادئ الليبرالية الكلاسيكية وأفكارها المزدهرة في زمانه، ودافع عنها بحماس، ويُعد كتابه هذا “مُرافعة” عن حياة سياسيّة مبنيّة على الحرّيّة الفرديّة، بحكومة أكثر مسؤوليّة وإدارات أكثر فعاليّةً ومتحرّرة من الفساد، وحذّر من تحول الديمقراطيّة إلى نوع من “طغيان الأكثريّة”. فمخاطر الطغيان لا تقتصر على الاستخدام المتعسّف لأجهزة الدولة وحسب، وإنما تأتي ايضًا من سلوكيات “الرأي العام” المُتأثّر بالعادات والتقاليد، والمُتشكّل من أفكار مُسبَقة لا تقبل الرأي الآخر المُخالف لما هو سائد وتقليدي. وإذا كان يُحذّر من طغيان الأغلبية والرأي العام؛ فمن الطبيعي وقوفه بقوة أشد ضد فكرة “المستبد العادل”. وعلى الرغم من وعيه لبعض نواقص الحكم “الديمقراطي التمثيلي” والأثمان الغالية لبعض أُسُسِه، فلا بديل له أفضل منه. لا تتوقف إيجابيات نظام الحُكم التمثيلي عند حرّيّة التعبير والصحافة والاجتماع، فهو يوفّر الآليات التي تضع السلُطات المركزية تحت السيطرة والرقابة، ويرسّخ برلمانًا يعمل كحارس للحرّيات وكمركز للعقلانية والسجال، ويعمل، عبر المنافسة الانتخابيّة، على تنمية مهارات الريادة والمعرفة لدى عموم الشعب.

عندما نشر جون ستيوارت ميل مقاله “استعباد النساء” عام 1869، عُدّ إهانة للقواعد التقليدية الأوروبية المُحددة لمكانة كل من الرجال والنساء في المجتمع؛ بسبب دفاعه عن المساواة بين الجنسين. ففي مجتمع القرن التاسع عشر كانت المرأة، بشكل عام، لا تزال خاضعة لنزوات الأب ثم الزوج، فالأعراف الاجتماعية تفترض أن النساء أقل قدرة من الرجال سواء جسديًا أم عقليًا؛ وهن يحتجن إلى “العناية”. وكانت تلك الأعراف مدعومة من وجهة النظر الدينية القائمة على العلاقة الهرمية بين الرجل والمرأة داخل الأسرة، وكذلك من النظريات الاجتماعية القائمة على الحتمية البيولوجية، في زمن سيطرت فيه بقوة رموز المرأة “المثالية” بوصفها أمًا حنونًا، وزوجة مخلصة، وربة منزل مُدبّرة. بينما كانت قناعة “ميل” أن عدم مساواة المرأة من بقايا الماضي، وليس لها مكان في العالم الحديث، ورأى أن بقاء نصف الجنس البشري غير قادر على المساهمة في المجتمع خارج المنزل يُعدّ عائقًا أمام التنمية البشرية. ومن قناعة “ميل” بضرورة التقدم الأخلاقي والفكري، للرجال والنساء على حد سواء، لتحصيل المزيد من السعادة للجميع؛ طالب بحق التعليم وحق التصويت للمرأة، ودافع عن هذه القناعة في جميع مجالات نشاطاته بما فيها عضويته في البرلمان. احتل كتاب “استعباد النساء” مكانة مرموقة في الأدبيات النسويّة الكلاسيكية.

امتلك جون ستيوارت ميل ثقافة راقية ومتنوعة، وأنتج فكرًا غنيًا، بدا لكثيرين متناقضًا في جمعه بين فكرة السوق الحرّ وفكر التدخّل الاجتماعي؛ لكن مناداته بالضمان الاجتماعي وأمن العمل، والحفاظ على الصحّة العامة والحماية من الفقر، وجدت لها تطبيقًا عمليًا وواقعيًا في اقتصادات “سوق حرة”، وإن جاء ذلك متأخرًا بنحو قرن من الزمن. وعوض البحث عن التناقض الشكلي لدى “ميل”، يجب الاعتراف برؤيته الاستشرافية التي جسّدتها “دولة الرفاه” في أوروبا، بعد الحرب العالميّة الثانية. وحتى تراجعها النسبي في أوروبا الغربية لا يُغلق الباب أمام عودتها، وهذه من مآثر الديمقراطية على الرغم من نواقصها. والأهم أن “دولة الرعاية” لا تزال مزدهرة في الشمال الأوروبي. هذه النماذج تشكّل حلمًا، صعب المنال، للمليارات من فقراء العالم.




المصدر