(قايين): “إن تاريخ البشر هو تاريخ خلافاتهم مع الإله”


هيفاء بيطار

في الصفحة 97 من رواية (قايين)، يقول ساراماغو على لسان قايين: “إن تاريخ البشر هو تاريخ خلافاتهم مع الإله، فلا هو يفهمنا، ولا نحن نفهمه”. وتنتهي الرواية بعبارة: “الله والإنسان ما زالا يتجادلان إلى الآن”.

يخطفنا ساراماغو إلى فضاءات الحرية المطلقة، حرية أن نكون ندًا للإله، أن نسائله ونحاكمه، كما يسائلنا ويحاسبنا، قايين هو الإنسان، والمخلوق، المرتبك والحائر في علاقته مع الإله، الإله الذي يسميه ساراماغو “السيد”، فالسيد خلق آدم وحواء، وعاشا في جنة عدن. أمرَهما ألا يأكلا من الشجرة، لكنهما عصيا الأمر؛ فطردهما من الجنة.

بأسلوب بسيط وسهل، يحكي ساراماغو أسطورة الخلق، ونجد آدم وحواء المطرودين من الجنة حائرين، حيرة عميقة تمثل قلق الإنسان وتساؤله الصامت عن غاية الله من خلقه. أظن أن هذا السؤال يؤرق كل إنسان، منذ بداية البشرية، وحتى الآن.

الجيل الأول للخليقة كان قايين وهابيل، كانا أخوين متحابين جدًا وأفضل صديقين، أحبهما السيد (أي الإله). كان هابيل مولعًا بتربية الماشية، وقايين مولعًا بالزراعة، وتتطلب التقاليد تقديم قرابين للإله، وأراد قايين وهابيل تقديم باكورة عملهما للسيد، فأحرق هابيل لحم خروف طري، وأحرق قايين كمية من البذور والسنابل. علا دخان لحم قربان هابيل ووصل إلى السماء، في إشارة إلى أن السيد تقبّـل القربان، وأنه رضي عنه، لكن دخان النباتات التي قدمها قايين تبدد، ولم يرتفع إلا قليلًا عن سطح الأرض؛ ما يعني أن الله رفضه. كررا التجربة مرارًا، وفي كل مرة كان الله يتقبل قرابين هابيل ويرفض قرابين قايين. أخذ هابيل يسخر من أخيه ويتكبر عليه، ويتبجّح بأن السيد يفضله ويؤثره على أخيه؛ فغضب قايين غضبًا عارمًا، والتفت حوله فوجد فك حمار، فأمسكه وقتل أخاه.

فدوّى صوت السيد: ماذا فعلتَ بأخيك، يا قايين؟ رد قايين: لقد قتلته، لكن المذنب الأول هو أنت، أيها السيد، كنتُ مستعدًا لتقديم حياتي فداء لحياته؛ لو لم تدمّر لي حياتي، وترفض قرابيني، ثم ألستَ أنت الخالق، كان بإمكانك منعي من قتله.. لقد قتلتُ هابيل؛ لأنني لا أستطيع قتلك أنت.

بعد جدل بين السيّد وقايين؛ اعترف السيد أنه يتحمل جزءًا من مسؤولية الجريمة، وبأن موت هابيل هو مسؤولية مشتركة بين السيد وقايين، أي أن الإله اعترفَ بحصته من الذنب، لكنه -كسيد للكون- سينزل عقوبة بـ قايين، وهي أنه سيمضي هائمًا على وجهه عبر الدنيا، ولن يقتله أحد، لأنه سيضع علامة على جبهته، وهي علامة إدانته.

قايين الملعون قاتل أخيه، أخذ يهيم في الأرض ورأسه ثقيل، يقلب الحياة في رأسه، ولا يجد لها تفسيرًا. ينقل ساراماغو قايين، عبر الزمان والمكان، وعبر حبكة قصصية سلسة ومشوقة وبلغة مدهشة ببساطتها ووضوحها، حتى إنه يمكن للأطفال أن يفهموا الرواية، نجد قايين يشهد كيف طلب السيد من إبراهيم أن يضحي بابنه إسحق، لقد طلب السيد من إبراهيم أن يذبح ابنه ببساطة، كمن يطلب كأس ماء حين يعطش؛ ما يعني أن هذا الطلب كان عادة متجذرة لديه؛ انصاع إبراهيم وأقام المحرقة وكاد يذبح ابنه، لولا تدخل السيد في اللحظة الأخيرة، بأن أرسل كبشًا، ليذبح بدل ابنه. قايين يرفض هذا الطلب من إله، ويتساءل: أيّ طلب أن يؤمر أب بذبح ابنه! يبدو أن السيد يسبب الجنون للناس، فالسيد لا يطيق رؤية شخص سعيد.

ثم ينتقل قايين، ليجد نفسه في مدينتي المجون سدوم وعمورة، وكيف أنزل السيد بالسكان عقوبة قاسية، أبادهم جميعًا على انحلالهم الخلقي وشذوذهم، لكن قايين شهد احتراق وتفحم أجساد أطفال أبرياء، لا ذنب لهم في فساد الكبار.

لا يمكن لقايين فهم فكرة العدالة الغريبة لدى السيد، ويفكر أنه لا يمكن إلا لمجنون لا يعي أعماله أن يتقبـّل أن يكون المذنب المباشر في موت آلاف الأشخاص، ثم يتصرف بعد ذلك كأن شيئًا لم يحدث.

قايين الآن يشهد مأساة أيوب، العبد المطيع للسيد، لكن الله أراد أن يجربه، ويصور لنا ساراماغو، في صفحات بديعة، كيف أن السيد وإبليس دخلا في رهان، حول أيوب، هل هو عبد صالح أم لا، ويفكر قايين بأن الشيطان ليس سوى أداة من أدوات الرب، وبأنه مكلف بإنجاز أعمال قذرة، لا يستطيع الخالق توقيعها باسمه.

تتمزق روحه، وهو عاجز عن فهم مغزى ما يحدث في الحياة، لا يستطيع أن يجد مغزى لما يحدث، ولماذا لا يمكن فهم مقاصد الرب بعيدة الغور، لا بدّ للإله أن يكون شفافًا وصافيًا مثل البلور، بدل كل هذا الرعب، وبدل كل هذا الخوف المتواصل، من قبل الخليقة تجاهه.

يتساءل قابين: ماذا عن أبناء أيوب الذين ماتوا، كيف ستعوضهم يا سيد؟ يرد السيد: سيُرزق بأولاد غيرهم، كما في السابق، بالطريقة نفسها التي حلـّت بها قطعان محل أخرى.. الأبناء -بالنسبة إلى السيد- ليسوا سوى قطعان!

وفي برج بابل الذي أراده الإنسان أن يصل حتى السماء، كعلامة على عظمة الإنسان وتفوقه، يتبلبل الناس، وتتكاثر لغات غريبة، وينعدم التواصل والفهم، ثم يأتي العقاب الإلهي العظيم، ويدمر برج بابل، كي يعيد الإنسان إلى تواضعه.

في كل مشهد وحدث، من قتل قايين لهابيل، إلى أيوب، وإلى سدوم وعمورة، وإلى برج بابل، في كل كارثة أو عقوبة من السيد، ثمة حوار عميق وجريء وصادم، بين الإله والإنسان، قايين الذي يمثل الإنسان، المعذب بقدره، التائه والعاجز عن فهم المقاصد الإلهية، يصرخ قايين: يا لفكرة العدالة الغريبة، لدى السيد.

حتى قصة نوح التي ختم بها ساراماغو الرواية، وحرّفها بطريقة إبداعية رائعة، تنتهي بأن الغموض يبقى مستمرًا بين الإنسان والإله.

حتى إن الإله يصرخ بأنه نادم، لأنه خلق الإنسان، وبأن قلبه يطفح بالمرارة بسبب هذا المخلوق، وقايين لم يعرف السعادة أبدًا، لأنه موصوم بقتل أخيه، قايين ولد كي يرى ما لا يمكن وصفه، قايين هو من يعادي الرب. يؤمن قايين أن الإله لا يعرف شيئًا عنه، وبهذا التصريح الذي صرخ به قايين، يلزم الإله الصمت ويبتعد.

رواية (قايين) هي رواية الوجود الإنساني المُعذب بأسئلة لا أجوبة واضحة عليها، رواية قلق الكائن المجهول، مهما ادعينا أننا نعرفه: الإنسان.

الإنسان لغز نفسه، وربما لغز الخالق والكون… عقل ساراماغو يُضيء بالفكر الحُر وبالكرامة، إحساسه بكرامة هذا المخلوق الطامح إلى ندّية مع الإله، الطامح بسيادة الكون… والمعذب بذاته أيضًا، لأنه يعرف أنه مخلوق، وأنه صنيعة قوة عظمى، وأنه من تراب والى تراب يعود. لعل عذاب الإنسان الأصلي والحقيقي هو توقه للألوهة.

رواية عظيمة عن طبيعة العلاقة بين الإنسان والخالق، وما يعتريها من شك وسوء فهم وعذاب وقدرية والتحام. ظل الإنسان عبر التاريخ يجادل الإله، وظل العقل البشري عاجزًا عن فهم وتفسير مغزى الكون ومغزى الحياة، والأهم مغزى الإنسان.

ساراماغو الذي حصل على نوبل هو قايين الذي رسمه شخصية إنسانية عظيمة، والذي على الرغم من أنه قاتل أخيه، فإنه شخص نزيه ورائع في جوهره.

ولا يمكنني إلا القول إن من حسن حظ ساراماغو أنه كاتب غير عربي؛ لأنه كان سيتهم بالكفر ويُهدد بالقتل، بسبب روايته (قايين) التي عبّر فيها عن قلق الإنسان وإشكالية علاقته مع الخالق ومع الكون ومع نفسه، كما حصل مع نجيب محفوظ، حين كتب رائعته (أولاد حارتنا) التي مُنعت سنوات طويلة، والتي اتُّهم بسببها بالكفر، وتعرض لمحاولة قتل.

وبعد؛ ما من شك في أن سقف الإبداع هو ذاته سقف الحرية.

الرواية: قايين. 190 صفحة- طبعة أولى 2011

الكاتب: جوزيه ساراماغو.

ترجمة: صالح علماني.

الناشر: دال للنشر والتوزيع. دمشق– سورية.




المصدر